9.
...¬«pq Wh ¥QƒdG ™æ°U ÚH
حترير �لإن�سان من قيود �لفكر �ملرت��سة بني يديه، و�لتي ت�سكل �أطر ً� لفهم ذ�ته وما حوله، نتيجة
ّ جُ َّ جُ
عرف �أو عقل جمعي منذ ولدته، كل ذلك يجعله يف "�سندوق �أ�سود" ي�سعب عليه �خلروج منه، �إل جُ
يف حالة و�حدة فقط، وهي "�إذكاء �لفطرة" و�إطالقها بحريتها �لطبيعية لتبحث وت�ساأل مثل �آدم ل
يتوقف حتى جُي�سبع َنهم �ملعرفة و�ل�سوؤ�ل عنده. �سوؤ�ل �لفطرة و�لعفوية �لد�فع لت�سكيل م�سار ه�سم
َ
معنى �لوجود و�لعمل على توظيفه يف �أف�سل �سورة.
وقد ل تكون تلك �لفطرة كافية لتحرير �لطاقة �لكامنة يف �لإن�سان ل جُيدرك من �أين و�إىل �أين وكيف
وماذ� وملاذ� وهل؟.
فكان ل بد من معزز خارجي catalystي�ساعد يف "�سحب" تلك �لطاقة �إىل جانب "دفع" �لفطرة
جُ ِّ
من �لد�خل.
ومت ََّثل �ملعزز �خلارجي يف �لأنبياء و�لر�سل حماولني "�سحب" تلك �لطاقة �لكامنة لتخرج من �أجل
�لإعمار و�لإ�سالح و�ل�ستخالف �حلقيقي لالإن�سان على �لأر�ص.
وكانت �أد�ة "�لتد ّبر" هي �لأد�ة �لناجعة يف حترير تلك �لطاقة من مكمنها �ملند�ص حتت ركام
�لربجمة �لماعية و�لإن�سد�د �إىل ما هو "متفق" عليه يف �ملجتمع، فكان }بل قالو� �إِنا وجدنا
َ ْ َ ُ َّ َ َ ْ َ
�آباءنا علَى �أُمة و�إنا علَى �آثارهِ م مهتدُون{ �لزخرف 22
َ َ َ َ ّ َ ٍ َ ِ ّ َ َ َ ِ ُّ ْ َ َ
خارطة طريق �أولئك �لغا�سون �لطرف عن فهم طاقتهم �ملكبوتة.
ومل تقت�سر مهمة �لأنبياء و�لر�سل على حترير �لإن�سان من عبوديته �لأوىل �ملتمثلة يف �لإنغالق
على �لن�ص �حلركي للعقل �لمعي �ملوجود يف �ملجتمع، بل و��سل �سري ذلك �لتحرير بالدعوة لعدم
9
10. الإنغالق �أي�ض ًا يف فهم الن�صو�ص املقد�سة املتمثلة يف الكتب ال�سماوية، و�أبرزها و�آخرها القر�آن
الكرمي، معجزة �آخر الأنبياء والر�سل، ومعجزة �آخر الزمان.
وت�أتي دعوة "الت�أمل والتد ّبر" من نف�س الكتاب املقد�س وهو القر�آن الكرمي، كالم اهلل تعاىل، وكل
ن�ص له قابلية ت�أويله، مما خلق تعدد ًا يف املدار�س الفكرية واملذاهب، وهذه طبيعة ب�شرية را�سخة،
ٍّ ّ
فلكل منا نافذته التي يطل عليها لنف�س الغرفة املقد�سة وهي القر�آن الكرمي، ويكون مدار احلديث
عن نف�س الغرفة ال غريها.
ومع وجود ن�ص ديني مقد�س وهو كالم اهلل املوجود يف القر�آن الكرمي، ومع وجود ن�صو�ص �أخرى
من ال�سرية تف�سر كالم اهلل تعاىل، تبقى الدعوة للت�أمل والتدبر مفتوحة. وهذا ما مييز الإ�سالم
ّ
عن غريه، فلي�س هناك ن�ص وقفي يلزمه فهم وقفي �أي�ض ًا يف كل القر�آن الكرمي، بل هناك م�ساحة
ٌ
جُ ّ
للتدبر والدخول يف عمق بحر لي يف كالم اهلل تعاىل، واحلديث هنا عن كالم اهلل تعاىل وعملية
الإ�سقاط احلركي لآياته يف حياتنا املعا�صرة، ولي�س لتلك التي لها جنبة ت�شريعية وا�ضحة ومثبتة.
وهذا ما ين�سف �أي �سلوك كهنوتي ُيبعد العقل عن التدبر والتفكري ويح�صر الأمر على فئة دون
�أخرى.
ومن منطلق الآية الكرمية }�أَفل يتدبرُون القرْ�آن �أَم علَى قلوبٍ �أَقفالهَا{ حممد 42
َ اَ َ َ َ َّ َ ْ ُ َ ْ َ ُ ُ ْ َ ُ
ت�أتي هذه التجربة املتوا�ضعة من فرد م�سلم م�ؤمن بتحرير الطاقة الكامنة يف التفكري والتمثيل
العملي للآيات يف كل ع�صر وم�صر.
ِ
فالإ�سالم قدم القر�آن كتاب ًا �سماوي ًا خلامت الر�سل، وما زال هذا الكتاب يزخر ببحور ي�ستحق بناء
ّ
�سفن التدبر والعمل لها.
الأوريغامي ،origamiهو فنٌ ياباين لطي الورق، فمن ورقة عادية ميكن �أن يخرج منها �ألف
�شكل و�شكل، وحتوي الآيات القر�آنية التي حتت�ضنها كل �صفحة من القر�آن قدرة هائلة من املعاين
والدالالت التي ال تنتهي، لذا كان القر�آن الكرمي �صاحل ًا لكل زمان ومكان.
01
11. جتربة متوا�ضعة يحاول الكاتب �أن يطوي الورق بطريقته اخلا�صة ليقدمه للقاريء، والذي ب�إمكان
الأخري �أي�ض ًا �أن يطوي عرب "التدبر" نف�س الآيات ليقدم �شكال �آخر وهكذا. لتطوف عقول املتدبرين
ً
حول �أقد�س و�أ�صفى ينبوع فتنهل منه �سلوك ًا وفكر ًا ير�سم مالمح منتجة يف الثقافة وال�سيا�سة
ُ
واالقت�صاد، وتبقى متعة التدبر والربط بالقر�آن الكرمي �أف�ضل "مترين" ميكن للفرد القيام به
ليعي�ش كالم اهلل واقع ًا ملمو�س ًا ال بني دفتي م�صحف نلم�سه بجوارح ثالث فقط: اللم�س والنظر
وال�سمع. بل تتعداه لتعي�ش يف البعد الثالث ومع التعمق فيه ن�صل للبعد الرابع واخلام�س و�أكرث.
ّ
ومن اجلدير بالذكر �أن بذرة الت�أمل والتدبر انطلقت قبل عام كامل من الآن ب�صورة ب�سيطة يف
�صفحتي ال�شخ�صية يف الفي�س بوك، وكان التفاعل متوا�ضع ًا، لتكون امل�ساحة اجلديدة للت�أمل ون�شره
عرب جمموعة �شبابية با�ستخدام برامج التوا�صل يف الهواتف الذكية. وكان �شهر رم�ضان قبل عام
من ن�شر هذا الكتاب هي البيئة اخل�صبة للت�أمل وزراعة الأفكار ون�شرها، ليكون "احل�صاد" بعد
ح ْول كامل يف �شهر رم�ضان جديد.
َ
ً
ويحوي هذا الكتاب ٨١ ت�أمال لبع�ض �آي الذكر احلكيم، وي�ستند الت�أمل يف كثري منه على طريقة
"طي" الفهم للكاتب، ويف البع�ض الآخر على ت�شابك م�ستند على �سرد الآيات وق�صتها وربطها
بالواقع.
�إ�ضافة اىل التدبر، �أ�ضاف الكاتب تلخي�ص بع�ض ر�سالة الآيات عرب �أ�شكال هند�سية، تعطي
ملخ�ص ًا ب�صري ًا عن الآية وداللتها الت�أملية.
وكما هو بي من عنوان الكتاب، فهو مقدم لت�أمالت لبع�ض الآيات، ال تف�سري لها.
ّ ِنّ
جتربة ب�سيطة، �أ�أمل �أن تفتح �آفاق ًا �أرحب لل�شباب امل�سلم يف الت�أمل و"طي" التدبر كل ح�سب قدرته
ٌّ
وزاويته ليقدم "�أوريغامي - تد ّبر" جديد، يعي�شه �سلوك ًا وفكر ًا و�إنتاج ًا يف ميادين احلياة املختلفة.
ّ
جعفر حمزة
�شهر رم�ضان ٣٣٤١هـ - �أغ�سط�س 2102م.
مملكة البحرين
11
14. حْ َ ْ ُ هَّ ِ َ ِّ ْ َ َ ْ ِ هَّ ِ َّ ْ َ ِ َّ ِ
}بِ�سم الل الرحمن الرحِ يم (1) المد لِل رب العا مَلِني (2) الرحمن الرحِ يم (3) مَالِكِ يوم
َِْ َّ ْ َ ِ َّ ِ
الدّين (4) �إِياك نعبد و ِ�إياك ن�ستعني (٥) اهْ دِ نا ال�صراط ا مْلُ�ستقِيم (٦) �صراط الذِ ين �أَنعمتَ
ِ َ َ َّ َ ْ َ ْ َ ِّ َ َ ْ َ َ َّ َ َ ْ ُ ُ َ َّ َ َ ْ َ ِ ُ ِ ِ
َ ْ ِ ْ َ رْ ِ ُ َ ْ ِ ْ َ اَ َّ ِيّ
علَيهم غي ا مْل َْغ�ضوبِ علَيهم ول ال�ضال (٧){
ب�سم اهلل الرحمن الرحيم هي �آية ا�شتعال حمرك كل فعل وعمل ونية لل�سماء على وجه الأر�ض، هي
ّ
العنوان العام املتحرك با�سم خالق الكون، وهي الب�ساط املمتد من قلب امل�ؤمن يف �صناعة كل قوالب
العمل الر�سايل والتغيريي يف املجتمع.
الب�سملة �أول �آية يف القر�آن الكرمي وهي جزء ال يتجز�أ من �أول �سورة، �إذ تُعد جزء من احلمد،
ً
وميكن اعتبار الرتكيبة الو�صفية لهذه الآية �إختزاال مل�سار العبد �إىل ربه، فابتداء الإ�ستعانة باخلالق
عرب "الباء" يف ذكر ا�سمه الأعظم الذي ال ُيطلق على غريه حتى مع الآلهة املزيفة الإن�سية منها
�أوامل�صنوعة، فال ُيقال "اهلل" �إال �إليه فقط، وهو اال�سم اجلامع لكل �صفاته تعاىل.
فيبد�أ العبد بذكر ا�سم اهلل وتعقيب ًا ب�صفتني اثنتني كدائرتني حميطتني بالعبد، دائرة الرحمانية
والرحيمية، الأوىل هي الدائرة الأكرب ال�شاملة لكل املوجودات مما يعطي الدفعة الكونية للعبد
ملعرفة حقيقية بخالقه وا�سع الرحمة لكل موجود، فبالتايل تكون نظرته وواقعه وتفاعله مع الأمور
خمتلف ًا ومنطلق ًا من موقع قوة الإميان باخلالق الذي �أحاط بكل �شيء دون ا�ستثناء. وهو نف�س الأمر
الذي يهبه التحرك للإكت�شاف والتفاعل والتمازج مع الكون املحيط به، فمن خلقه هو من خلق هذا
الكون، فيكون التفاعل مع املحيط مطلوب ًا قبل �أن يكون متوقع ًا.
ويتحرك للداخل يف �أعماق ذاته عرب خ�صو�صية الرحيمية املوقوفة لعباد اهلل امل�ؤمنني، وبالتايل
ّ
تكون �شرارة التغيري ابتداء بذكر ا�سم واهب الطاقة و�صانعها ا�سم ًا "اهلل"، ويردفها العبد بذكر
41
15. دائرتي الرحمن والرحيم، ليكون كل ما ومن يتحرك �إليه وفيه وعنه ومعه �ضمن تلك الدائرتني ال
غري وال يكون فعال �أو واقع ًا �إال بهما.
ً
الب�سملة عنوان امل�ؤمن مما يجعلها عنوان ًا حقيقي ًا لكل فعل، واحلديث "كل �أمر ذي بال مل ُيذكر
فيه ب�سم اهلل فهو �أبرت"، ي�شري �إىل �أنّ النق�صان يف كل �أمر مرهون بعدم اكتمال معادلة الكون
الأ�سا�سية يف النظر والعمل يف الأمور، وهو وجود اهلل ذكر ًا ونية وحركة وعمال فيما نقوم به.
ً
ومت ّثل الب�سملة كقول اعرتاف ًا وا�ضح ًا باخلط العملي للإن�سان، فال يقول ال�سارق ب�سم اهلل وهو
ي�سرق، وال يقول الزاين ب�سم اهلل وهو يزين، وال يقول القاتل ب�سم اهلل وهو يقتل، �إال ا�ستثناء من
حتوير الدين برمته �إىل دين م�ش َّوه للفتك بالآخر بعناوين مقد�سة، فتكون الب�سملة من الأدوات
ُ
امل�ش َّوهة –بفتح امليم-، فرنى الإرهابي يذبح بريئ ًا ويذكر ا�سم اهلل عليه!، ومع ذلك ال يقول الزاين
َ
�أو ال�سارق ب�سم اهلل وهو يقوم بفعله!
الب�سملة خطة وم�سار وخارطة طريق للم�ؤمن، وجهر ُه بها �إعالن بخطه الر�سايل، وهو ما يجعل فعل
اجلهر بها من �صفات امل�ؤمنني، كما ورد يف احلديث عن الإمام الع�سكري "عليه ال�سالم":
ّ
(عالمات امل�ؤمن خم�س: �صالة �إحدى وخم�سني، وزيارة الأربعني، والتختم باليمني، وتعفري
اجلبني، واجلهر بـ }ب�سم اهلل الرحمن الرحيم{).
َّ َّ
واجلهر �إعالن عن حالته التي هو فيها، ولو بالإمكان قولها �إخفات ًا. وما القول جهر ًا �إال �إعالن
�صوتي عن اخلط والتوجه والفعل بعدها، وهي حالة حركية ظاهرية لإبراز م�سارها �أينما كان
امل�ؤمن.
فال تقت�صر الب�سملة على ذكر اللفظ، بل هي "الو�صفة" التي ال تُلفظ �إال لأجل فعل ر�سايل �إن�ساين
�سماوي مغيرّ للأف�ضل. ف�أ�صبحت الب�سملة عنوان ًا فا�صال منذ بداية الر�سالة، فرف�ضت قري�ش
ً ُ
الب�سملة يف العهد املكتوب بينها وبني الر�سول الأكرم (�ص)، وجزء منها بقي دون م�سا�س يف وثيقة
قري�ش يف الكعبة التي �أكلتها الأَر�ضة -احل�شرة-.
َ َ
وتبقى الب�سملة عنوان امل�ؤمن يف حركاته و�سكناته كتميمة �سماوية تُذكره باملن�ش�أ وتُعينه على امل�سري
51
16. بذكرها لنف�سه. وك�أنها "اخلتم" الذي ي�ضعه امل�ؤمن على كل عمل ُيقدم عليه، وما لذلك "اخلتم"
من هدفية ومعنى ور�ؤية وتغيري.
حْ َ ْ ُ هَّ ِ َ ِّ ْ َ َ
} المد لِل رب العا مَلِني {
هنا ذكر نتيجة بو�صف ال�سبب.
مبعنى �أن احلمد ال يكون �إال ل�سبب �أمر �أ�صلي ال عار�ض وهي النعمة، ومل ُيذكر هنا ال�شُكر بل
احلمد، واحلمد تعظيم لأجل ما �صدر من �صاحب الإنعام، �سواء و�صل للفرد مبا�شرة �أم مل ي�صل،
بعك�س ال�شكر، وهو تعظيم لأجل �إنعام ي�صل للفرد مبا�شرة.
وبوابة الفاحتة ت�أتي من خالل حمد اخلالق املو�صوف بالآية بـ "رب العاملني"، فحركة احلمد
اخلا�صة باهلل يتبعها و�صف هلل تعاىل. ف�أي خالق �أحب باحلمد هلل كرب العاملني؟ وبعد �إطالق
ّ
�شرارة م�صباح هذه ال�سورة بالب�سملة ي�ستمر زيتها باحلمد والو�صف للخالق يف عملية متوا�صلة
من و�ضع م�سرية العبد يف عالقته مع ربه، وذلك عرب هذه الآية الأوىل التي �ستكون "نربا�س" كل
ال�سورة.
فعنوانها التوحيد املطلق، ونبذ لكل �آلهة غري اهلل، لت�سقط كل الأ�صنام مادية كانت �أو معنوية ليبقى
الرب احلقيقي املالك للوجود واملانح للحياة دون غريه وهو اهلل جل وعال.
ّ
وعند �إدراك التوحيد تربز قيمة الإن�سان ب�إن�سانيته احلقة، بحريته وكرامته و�سبيل تكامله. فتعدد
الآلهة �أو �إنحراف الطريق لغري اهلل الواحد الأحد ُيف�ضي �إىل ا�ستنزاف طاقة الإن�سان يف غري
موردها، ليتم ا�ستغالله من قبل حمرتيف �صناعة الآلهة من رجال دين �أو �سلطة حاكمة، ويكون
النتاج الب�شري من�صب ًا يف تلك ال�سيا�سة الدينية املُعلنة، فيكون الإ�سفاف بالعقل والفطرة مع ًا.
فلي�س هناك كرامة لإن�سان دون توحيد خال�ص هلل، فغيابه ت�شويه لهدف اخللقة بوجود التعددية
�أو بغياب اخلالق يف املجتمع، و�إذا غاب الهدف احلركي واملُكرم للإن�سان يف حياته الدنيا ب�سبب
ّ
ذينك ال�سبيلني "التعددية �أو الإحلاد"، غاب "الإن�سان" و�أ�صبح كمثل �إن�سان "الغاب". ال هدفية،
ال كرامة وال بناء ي�شعر الإن�سان بقيمته يف هذا الوجود.
61
17. وهذه الآية الكرمية راية توحيد وا�ضحة وخمت�صرة.
} الرحمن الرحِ يم ِ{
َّ ْ َ ِ َّ
وي�ستمر زيت الو�صف بالتدفق يف و�صف اخلالق لي�ضيء م�صباح قلب هذا الإن�سان �أكرث، فمن
ت�صف وكيف ت�صف؟
رب العاملني، وبعدها "الرحمن الرحيم" فهو اخلالق للعامل كله، و�أي�ض ًا هو الرحمن به والرحيم
عليه، جمع بني �صفتي القدرة والرحمة، ولي�س بذي قوة رحيم وال كل ذي رحمة به قوة، �إال اهلل
تعاىل.
و�إعادة ال�صفتني هنا لي�س تكرار ًا بل و�صف ًا تكميلي ًا للوحة كونية متنا�سقة بني و�صف ال�سبب ور�سم
طريق من ي�سري عليه.
ويف ذلك تربية يومية يذكرها الإن�سان امل�سلم يف �صالته كل يوم "�ستني مرة"، در�سُ الرحمة من
الرب، ليعك�سها الإن�سان يف �سلوكه مع املحيط، من �إن�سان وحيوان ونبات وجماد. در�س يزرع يف
ٌ
الإن�سان الرحمة واللني.
} مَالِكِ يوم الدّين {
َِْ ِ ِ
�ألي�س من املنطقي �أن يكون خالق الكون هو مالك يوم القيامة والآخرة؟
بالطبع وما ذكره هنا �إال لت�أكيد ذلك بالفعل وهو م�ؤكد بالقوة –عند الإن�سان-، والآية ت�صف
بلفظني فقط م�شهد ًا مذهال ومهوال عن يوم القيامة.
ً ً
"مالك" واملالك �أي امل�سيطر واملتحكم وكل �شيء �إليه راجع، وتنقطع كل الأ�سباب الظاهرية
وتتج ّلى املالكية احلقيقية هناك يف يوم القيامة والعدالة املطلقة.
"يوم الدين" وهو يوم الإن�صاف والعدالة ويوم اجلزاء وجت ّلي الدين فيه بكل عناوينه وم�صاديقه.
هو اليوم الذي يعتدل فيه ميزان الكون برمته-والذي �أخ ّله الإن�سان بطغيانه وطمعه- وي�أخذ كل
71
18. ذي حق حقه، ولي�س هذا مبدعاة للتواكل، بل هو حجة وثواب وجزاء تقدمه ال�سماء لكل من ي�سعى
لإحالل هذا التوازن الكوين و�إرجاعه �إىل طبيعته عرب الفطرة ال�سليمة للإن�سان.
ذلك اليوم الذي يدفع الإن�سان امل�ؤمن حل�ساب نف�سه جيد ًا منذ الآن، ففي الدنيا عمل بال ح�ساب
ويف الآخرة ح�ساب بال عمل. مبد�أ املعاد تذكره هذه الآية الكرمية بطريقة خمت�صرة جد ًا وفـي
لوحة �إعجازية عميقة.
�أمل ال يتوقف عن احلركة والإجناز للدنيا، وحما�سبة ال تغيب حلظ العني للآخرة. ميزان مثايل
مبهر لإحداث التغيري الإيجابي عند الإن�سان امل�ؤمن، �إذا ما �أدرك حقيقة "مالك يوم الدين". ُ
ومن الب�سملة �إىل هذه الآية خط خلق كامل:
ابتداء با�سم اخلالق املك ِّون وحمد للخالق وو�صفه بالربوبية للعاملني جميع ًا، و�إكمال ذلك الو�صف
ٌ
ً
بالرحمانية والرحيمية و�صوال �إىل �إقرار هذه العظمة مبالكيته ليوم الدين.
�أربع �آيات فقط ت�صف ابتداء امل�سرية �إىل نهايتها متهيد ًا خلارطة طريق وا�ضحة يف الآيات الأربع
املتبقيات يف ال�سورة املباركة.
َّ َ َ ْ ُ ُ َ َّ َ َ ْ َ ِ ُ
} �إِياك نعبد و ِ�إياك ن�ستعني {
ً
و�أول اخلطوات العملية للتغيري هو تزويد حمرك العمل للإن�سان امل�ؤمن باهلل بوقود العبودية �أوال،
ّ
ومفهوم العبودية هلل هو �أ�صل احلرية يف الكون، فم�ساحة العبودية هلل هي بحجم كل الكون دون
حدود.
"�إياك نعبد و�إياك ن�ستعني" ال تكون الإ�ستعانة �إال من ذي قوة، وهي فعل الطلب، وال يكون
الطلب �إال بتحقق من لديه تلك القوة، لذا وجب تثبيت �صاحب القوة قبل اال�ستعانة. فكان
الإقرار بالعبودية قبل طلب اال�ستعانة.
ُ
وتبد�أ هذه الآية مبخاطبة الإن�سان لربه -�إياك- يف خطاب مبا�شر به القرب ال ال ُبعد، خطاب
العبودية قبل اال�ستعانة، �إذ ال تكون الإ�ستعانة �إال بقوي ج ّبار، لذا بد�أ خطاب الإن�سان امل�ؤمن
بالإعرتاف بالعبودية العملية لتكون الإ�ستعانة باملعبود متحققة.
81
19. والإقرار بالعبودية هنا معناه ت�سليم مطلق للعبد امل�ؤمن لربه، مما ينعك�س على �إظهار قوته يف كل
ميدان يف احلياة، �إذ تت�صاغر �أمامه كل الدنيا دون تعظيم "خمتلق" �أو �أخذ ب�أ�سباب �أر�ضية فقط،
وهو ما يجعل امل�ؤمن ع�ص ِّي ًا على من يريد �إذالله وا�ستعباده يف الدنيا، ليكون حر ًا طليق ًا يف كل
َ
ميدان، ومنتج ًا فاعال �أينما كان يف كل جماالت احلياة، ليعي�ش العزة يف نف�سه دون ارتباط �أر�ضي
ً
يحد من حريته ك�إن�سان ميلك م�صريه، فيتحرر من كل قيود اال�ستعباد ب�شتى ال�صور يف ال�سيا�سة
واالقت�صاد والثقافة.
وتكرار اال�ستعانة ب�إياك بعد تكرار العبودية بها، ت�أكيد م�ستمر ومتوا�صل يف ذلك اخلط الذي يبد�أ
ب�إقرار التمازج مع حركة الكون الطبيعية يف العبودية لتكون منطلق ًا للتغيري ب�أداة الإ�ستعانة.
وعندما يقر العبد بعبوديته ملواله، ف�إن املوىل يهبه القدرة والت�صرف مبا يكون للموىل له هدف
وللعبد به قدرة وتطور.
َ ِّ َ َ ْ َ َ
} اهْ دِ نا ال�صراط ا مْلُ�ستقِيم {
بعد و�صف هلل عروج ًا �إىل و�ضع حجر الأ�سا�س من اعرتاف حقيقي للعبودية �إىل دافعية اال�ستعانة،
ت�صل الآيات �إىل مفرتق الطرق بعد كل تلك الآيات الكرميات التي وفرت الأر�ضية لتقدمي الأدوات
للإن�سان من �أجل معرفة موقعه يف الكون -�إياك نعبد- وكيف يبد�أ -�إياك ن�ستعني-.
يكون م�سار الإن�سان الر�سايل العابد العامل هو الو�صول �إىل ال�صراط امل�ستقيم، وال يكون ذلك
بدون هداية، فال القلب وحده يكفي مبعزل عن العقل للو�صول �إىل ال�صراط امل�ستقيم، وال العك�س
�صحيح.
فالهداية يلزمها �ضلعان �أر�ضيان وثالث �سماوي وهو الأهم، فال�ضلعان الأر�ضيان هما القلب
للإميان والعقل للر�سالة، وال�ضلع الثالث هو الهداية والتوفيق.وهل هناك �صراط غري م�ستقيم؟
كل ال�س ُبل ولو كانت معبدة والتي تفتقد �إىل �إ�شارات �سماوية فيها تكون غري "م�ستقيمة"، �إذ يكون
ّ ُ
من ورائها ب�شر، وبالتايل تكون نظرته قا�صرة، والنتيجة وجود �سبل وطرق غري حممودة العواقب
91
20. لنق�ص معبدها.
ُّ
لذا ال بد للإن�سان من م�سار يكون عليه ال مبعنى اجلرب الفر�ضي، بل بعنوان ال�سنة الكونية التي
ُ
َّ َ َ ْ َ ُ َّ ِ َ َّ َ ِ ً َ َّ َ ُ ً
يكون له مطلق اختيار ما يريد من م�سار } �إِنا هديناه ال�سبيل �إِما �شاكرا و�إِما كفورا {الإن�سان 3،
فاالختيار بني يديه ال جرب مطبق وال تفوي�ض مطلق يف حركاته و�سكناته.
ُ
فاختيار ال�صراط �أو امل�سار �سنة كونية ملعرفة �إىل �أين تتجه ومل تتجه وكيف تتجه؟ �إىل هدفية
ُ
الوجود �إليك، وال يعيق ذلك كل العوار�ض احلا�صلة يف احلياة من موت �أو مر�ض �أو �سجن �أو غريها
من �أمور قد تبدو �أنها تُبطئ حركة ال�سري يف ذلك ال�صراط، لذا ترى الكثري من الآيات والأحاديث
التي تدفع يف اجتاه امل�سري ولو اعرت�ض عار�ض فيه و�أدى �إىل الغياب الأر�ضي و�أنت ما زلت تعمل
يف ذلك ال�سبيل.
وما حديث �أمري امل�ؤمنني علي بن �أبي طالب (ع) �إال مثال ود�ستور عملي جميل يبني ذلك ويقدمه
بطريقة عملية "اعمل لدنياك ك�أنك تعي�ش �أبداً واعمل لآخرتك ك�أنك متوت غداً". تلك هي
معادلة الإنتاج دون توقف. وال تكون �إال يف �صراط م�ستقيم ي�ضمن ا�ستمراريتها، ووقودها الذي
ي�ضخه الإميان بحقانية هذا ال�صراط و�أزليته.
فما دام ال�صراط الذي مت�شي عليه "م�ستقيم ًا" ف�ضمان نتاجه دني ًا ملمو�س ًا ولو بعد حني، ويف
الآخرة م�ضمون ًا بلحاظ الوعد الإلهي يف ذلك.
وما دام ال�صراط امل�س�ؤول عنه من رب العاملني بقول "اهدنا"، فطلب الهداية هنا من رب العباد،
ف�سيكون اجلواب يف حمله ال غري، ومع ذلك ي�أتي التو�صيف عرب الت�صنيف التايل ك�إ�شارات طريق،
تلك "طريق غري معبدة" وتلك "�أمامك مرتفعات" وثالثة "الطريق غري �سالكة"، لذا ال بد من
و�صف �أي �صراط هو املق�صود.
ت�أتي الآية التالية لتو�ضيح ال�صراط وماهيته.} �صراط الذِ ين �أَنعمتَ علَيهم {هو ال�صراط الذي
ِ َ َ َّ َ ْ َ ْ َ ْ ِ ْ
�سلكه ال�سائرون املُنعم عليهم من ف�ضل اهلل ونعمه التي ال تحُ�صى، وكما تذكر بع�ض التفا�سري هو
َ
ملن �شملته بالنعمة الإلهية وهم �أربع جمموعات ذكرتها الآية الكرمية يف �سورة الن�ساء، وهي:
02
21. ِ َ َ ّ َ ُ َ َ َ َ َ ّ َ َ ْ َ َ ُ َ ْ ِ ْ َ ّ َ ِ َ َ ِ ّ ِ ِ َ َ ُّ ِ
}ومنْ يُطِ ع اهلل والر�سول ف�أُولئِك مع الذِ ين �أَنعم اهلل علَيهم مِ ن النبيني وال�صدّيقني وال�شهَداء ََ
وال�صالني وح�سن �أُ
َ َّ حِ ِ َ َ َ ُ َ ولئِك رفِيقاً{ الن�ساء 96.
َ َ َ
بداية ظهور النعمة تبد�أ بزلزال �أر�ض املجتمع بوجود الأنبياء و�إعالن الثورة، ومن ثم يكون ال�صف
الثاين لهم ممن �أنعم اهلل عليـهم وهم ال�صديقون ملوا�صلة م�سرية الإ�صالح والثورة على ظلم
الإن�سان لنف�س ــه وغريه، وبعدها ت�أتي مرحلة الت�ضحية والفداء بالـ ــروح عب ــر ال�شه ــداء لتثب ــيت
هــذا الطريـق ودفــع ثمن ــه على الأر�ض، ويك ـ ــون املـ�ســار الأخ ـيـر هو ا�ستم ــرار لذلـك النهج عبـر
} ال�صاحلني { العاملني يف املجتمع. وتلك املجموعات �أ�شار �إىل نكتتها �صاحب تف�سري الأمثل.
} غي ا مْل َْغ�ضوبِ علَيهم {
َ رْ ِ ُ َ ْ ِ ْ
من كان مغ�ضوب ًا عليه تنعدم معه الإ�شارات للو�صول �إىل طريق م�ستقيم، فعندما يتحرك العبد
وهو مغ�ضوب عليه من اهلل، نتيجة �أي �سبب ي�ستلزم ذلك الغ�ضب، فال ميكن �أن يهتدي لل�صراط
امل�ستقيم، لأنه بب�ساطة فقد "بو�صلة" الطريق.
هم �أولئك الذين اختاروا العناد و�صم الآذان وتغييب العقل مع الفطرة من �أجل م�صاحلهم الآنية،
�أولئك الذين ا�ستحبوا احلياة الدنيا على الآخرة، هم املعاندون املنافقون امل�شحونون حقد ًا و�سواد ًا
على �سبيل ال�سماء، فكان الغ�ضب الإلهي ن�صيبهم. واليهود املعاندون هم �أبرز م�صداق لهذه الآية
كما تذكر كثري من التفا�سري القر�آنية، بحكم �سلوكهم الدموي بقتلهم الأنبياء تارة وبحكم �سلوكهم
الدعائي املقيت �ضد الأنبياء وامل�صلحني تارة �أخرى وهم الأمنوذج الأبرز لعنوان } غي ال َْغ�ضوبِ
َ رْ ِ مْ ُ
علَيهم {. ومي�ضــي على هذا ال�سبـيل من انتهج فكرهم و�سلوكهم، ه ــم امل�صـداق الأو�ضح، و�صـور َ ِْْ
} ا مْل َْغ�ضوبِ علَيهم { ال تتوقف يف كل زمان ومكان.
ُ َ ِْْ
َ اَ َّ ِّ
} ول ال�ضالني {
وبعد ا�ستثناء املغ�ضوب عليهم ممن ال ميكنهم �أن يكونوا على �صراط �سوي وم�ستقيم، هناك الفئة
الأخرى "ال�ضالني"، وما يحويه عنوان ال�ضالل من تخبط يف م�سار الفطرة الإن�سانية، و�ضياع
بو�صلة ال�سري �إىل اهلل من خالل "�ضاللهم" يف �أنف�سهم وللآخرين. وهم املنحرفون من الن�صارى
كما ذكرت التفا�سري. ممن �ضلوا طريق الهداية والفهم احلقيقي لديانتهم، فيكون الت�شوي�ش
ّ
12
22. والتزوير مالم�س ًا ل�سلوك �أولئك املنحرفني عن خط ال�سيد امل�سيح (ع). وت�سري م�صاديق } ول
َ اَ
ّ َّ ِّ
ال�ضالني { على كل من �ضل ال�سبيل ومترت�س بالزيف.
فمعادلة الو�صول �إىل ال�صراط امل�ستقيم. بعد و�صف رب العاملني وو�صفة العمل يف الدنيا عرب
�إقرار بالعبودية واال�ستعانة به، يكون من خالل الو�صول �إىل نهاية هذه العملية برمتها، ال�صراط
امل�ستقيم وما بعد ال�صراط امل�ستقيم �إال النهاية املتوقعة يف �آخر �سل�سلة ت�صنيع احلياة، وهي
ر�ضوان اهلل والفالح الأكرب.
هي الفاحتة، فاحتة كل باب للتغيري هي فاحتة حكاية الب�شر كلهم، هي الد�ستور الكوين مل�سرية
الإن�سان. هي خارطة الطريق لكل م�سار للتغيري.
22
26. هناك ح�سابات يبدو من ظاهرها غري ما تُبطن، ما يجعل الفكر الب�شري وكثري ًا من التحليل
املو�سوم باملنطقي �أو الواقعي يقف عاجز ًا عن �إدراكها بعد حني. فتدفع احلكيم للرت ّيث يف �إ�صدار
احلكم �أو اال�ستعجال يف البناء على ظاهر الأمر.
ويف هذا الأمر نكتة لها ربط متني بوجود قوة مهيمنة وحاكمة و�إن مل ندرك اخلط الزمني املتوا�صل
ل�سري �أي حركة، فمهما بلغ الإن�سان من ب�صرية ومعرفة، يظل عاجز ًا وق�صري نظر عن �إدراك لوحة
الكون الكلية �إن اعتمد فقط على قدرته الذاتية.
مثله كمثل من ينظر �إىل ثقب �صغري وال يرى �إال لون ًا واحد ًا فقط، ويقنع نف�سه ب�أن ال �شيء ُيثري
الإهتمام وراء الباب، فما هو �إال لون واحد ال غري. وهو ال ُيدرك �أن لوحة جميلة وغاية يف الدقة
َّ
وكبرية جد ًا من وراء ذلك الباب، وهو مل ير �سوى جزء منها، ولو �أدرك الأمر لتوقف عن النقد ملا
َ
يراه.
وهذا املفهوم عنوان �أ�سا�سي يف حركة امل�صلحني كما التابعني لهم وامل�ؤمنني، لأنه ي�شكل "اخللطة
ال�سرية" لل�صرب و�إدراك امل�صلحة بعد حني، ال مبعنى التواكل واال�ست�سالم، بل مبعنى فتح الإدراك
خليارات ال ميكن للعقل الب�شري �إداركها.
وبالتايل يكون الإن�سان امل�ؤمن بهذه اخللطة مدرك ًا ملا هو �أبعد من "ثقب باب" احلياة التي يعي�شها.
ُ
�إنّ خط الإ�صالح الب�شري الذي تخطه ال�سماء لأهل الأر�ض، ي�أتي وفق "كوكتيل" بني الأ�سباب
الأر�ضية والر�ؤية ال�سماوية، ويت�شكل هذا اخلط امل�ستقيم مع الوقت ويتكثف ليتحول �إىل دائرة هي
نواة "الثقب الأ�سود "Black Holeاجلاذب �إليه كل ذي فطرة �سليمة يف املجتمع لإعمار الأر�ض
و�إ�صالحها، �سواء كان من الطبقة احلاكمة �أو من عوام النا�س، وال �أدل على ذلك من اتباع
الأنبياء من قبل طبقات ذات ثراء �أو جاه �أو منزلة و�سلطة، كامللكة بلقي�س وحتولها لدين نبي اهلل
�سليمان و�أ�صحاب الكهف وهم يف مرتبة وزراء وقادة ع�سكريني وحتولهم �إىل ر�سالة ال�سيد امل�سيح ُ
62
27. وامر�أة فرعون وهي زوجة �أعلى �سلطة يف بالدها �سارت على خطى التوحيد لل�سماء.
وقد تدمج "اخللطة ال�سرية" املتمثلة ب�إدراك امل�صلحة الغيبية يف احلا�صل من �أمور اخلارجة عن
يد التغيري وبني "الثقب الأ�سود"، ليخرج من بني هذا وذاك مناذج تتمتع بح�س عميق فيما ت�ؤمن
بغ�ض النظر عن حميطها الكابت لها.
ومتثل امر�أة فرعون �أمنوذج ًا م�ؤمن ًا من ال�ضفة الأخرى يف املجتمع، من تلك الطبقة احلاكمة،
ممن لها اجلاه واملال وال�سلطة والرفاهية والأمر. ومع كل ذلك فهي تختار مبلأ �إرادتها خط
الفطرة املنادي للعدالة واحل�س الإن�ساين ال�سليم.
و�ضمن �أحداث مت�صاعدة ي�صل النبي املوعود �إىل الق�صر الفرعوين، والذي �صدر منه قرار
الت�صفية اجل�سدية لكل مولود جديد.
وذلك بتدبري من رب ال�سماء لو�صول مو�سى �إىل ق�صر فرعون ودخول امر�أة الأخري على خط
َّ
احلدث، يجتمع خطا التدبري من ال�سماء واحلركة على الأر�ض، ليخرج من بينهما احلدث املُغيرِّ.
بقاء مو�سى وثورته بعد حني.
والآية مو�ضوع التد ّبر حتكي مقطع ًا من م�شهد حدث داخل الق�صر الفرعوين.
}وقالتِ امر�أَت فرعون قرت عينْ ل ولك ل تقتلوه عَ�سى �أَن ينفعنا �أَو نتخِ ذه ولدًا وهُ م ل
َ َ َ َ ْ َ َّ َ ُ َ َ َ ْ اَ َ َ َ ْ َ ُ ِ ْ َ ْ َ ُ َّ ُ َ ٍ ِيّ َ َ َ اَ َ ْ ُ ُ ُ
َُْ َ
ي�شعرُون{ الق�ص�ص ٩
خطاب يجري بني امر�أة فرعون م�صر مع زوجها، والبالد تبكي �أطفالها حتت قانون "الطواريء" ٌ
الذي �أ�صدره فرعون.
قانون يق�ضي بقتل كل مولود ذكر، وذلك بناء على ر�ؤيا �أتت فرعون يف املنام، وكان تف�سريها
مدعاة للقيام مبثل هذه املجزرة، خوف ًا من والدة "مخُ ّل�ص اليهود"الذي كان فرعون ي�ستعبدهم
وي�سوموهم �سوء العذاب، ويتخذهم وقود ًا لإر�ضاء جربوته ف�ضال عن ت�سيري �أمور البالد الت�شغيلية،
ً
72
28. كونهم من الطبقة الكادحة. قرار بالت�صفية الدموية لكل الأطفال الذكران من بني �إ�سرائيل، اعتمد
ٌ
فيه على "ر�ؤيا"، وهكذا هو حال املتجربين يف الأر�ض وامل�ستعلني غرور ًا وغطر�سة، فبقدر بط�شهم
لإظهار قوتهم اخلارجية �إال �أنهم يعي�شون �أعلى درجات ال�ضعف والهوان والعجز، فيح�سبون كل
�صيحة عليهم هم العدو، فاخل�شية من ظهور "�صوت معار�ض" يق�ض م�ضاجعهم، ويقبلون على كل
جريرة وخطرية لأجل �إبقاء الأل�سن داخل �أفواهها.
ومع كل البكاء والنحيب املمتزج ببكاء الأطفال الر�ضع يف �أرجاء كل حي، يكون طلب امر�أة فرعون
ُ
مبا�شر ًا وجريئ ًا بتبني طفل لهما!
ّ
} وقالتِ امر�أَت فرعون {
َ َ َ ْ َ ُ ِ ْ َ ْ َ
مل يتم ذكر ا�سمها يف الآية ال�شريفة، بل هي زوجة فرعون الطاغية، والن�سبة لفرعون داللة على
خط ما كانت عليه من مكانة وهي زوجة طاغية ع�صرها كله. وما لذلك من تبعات و�أزمات و�ضغط
عليها وهي املر�أة امل�ؤمنة.
لفة والتوافق وا�ستتمام ومن امللفت ذكر "امر�أة" فرعون ال زوجة، فالزوجة تُذكر يف حال حتقيق الأُ
معنى الزوجية املعنوية يف جانب الأُلفة واملودة واملادية من جانب الإجناب، وهذا غري متحقق يف
امر�أة فرعون، لذا مت ذكر "امر�أة" بدال من "زوج". فلم يكن هناك ت�آلف بينهما ال معنوي ًا وال
ً
مادي ًا، ال فكري ًا يف املنهج وال مادي ًا يف الإجناب.
ُ َّ ُ َ ٍ ِيّ َ َ َ
} قرت عينْ ل ولك {
تقدمي قرة العني لها للداللة على مكانتها يف قلب زوجها فرعون، و�أردفت "ولك"، لتُكمل �أُن�سها
ب�أن�سه وفرحتها بفرحته، وهذا يدل على الرغبة العارمة اخلفية لفرعون وزوجته يف تبني طفل ُ
على �أقل تقدير، وهو ذلك ال�صراع بني ر�ؤية فرعون ب�أن يكون هالكه على مولود جديد يخ ّل�ص بني
�إ�سرائيل منه، وبني �شعوره الأبوي وحنوه على زوجته بتلبية رغبتها، وتلك نكتة �إلهية يف �أن يكون
الفرج حتى من عمق رغبة الطغاة يف �أمر ما.
82
29. اَ َ ْ ُ ُ ُ
} ل تقتلوه {
يبدو �أن قانون "الطواريء" ال�صادر من فرعون ال ي�ستثني زمان ًا �أو مكان ًا، فالقتل اجلماعي مل
يكن خارج الق�صر الفرعوين فقط، بل �أن القتل ي�شمل كل ولد حتى لو كان يف الق�صر، وكان العقل
اجلمعي حينذاك ق ْتل كل طفل مولود مهما كان و�أي ًا كان، ويدل على الوح�شية املتجذرة يف ذلك
َ ُ
الوقت دون رحمة لطفل. فكان خطاب اجلمع "ال تقتلوه" داللة على �أن �شركاء القتل للأطفال كُثرُ،
من يت�سبب �أو ي�أمر �أو يقتل. كما ورد يف تف�سري امليزان للطباطبائي.
} عَ�سى �أَن ينفعنا �أَو نتخِ ذه ولدًا{
َ َ َ َ ْ َ َّ َ ُ َ َ
تفكري براغماتي ظاهري من امر�أة فرعون، ت�ضرب به على الوتر احل�سا�س يف ا�ستجالب امل�صلحة
اخلا�صة، ف�إما �أن يكون هناك نفع �أو اتخاذه ولد ًا، ويف كلتا احلالتني، تكون املنفعة لأهل فرعون ال
غري.
وما تقوله يبدو �إ�شارة �إىل عدم �إجنابهما للأوالد، وتلك اجلذبة من املحبة ملو�سى من امر�أة فرعون
�آية من �آيات الكرامة لنبي اهلل مو�سى، وذلك من خالل قوله تعاىل } و�أَلقيتُ علَيك مبة مني
َ ْ َ ْ َ ْ َ حَ َ َّ ً ِّ ِّ
ولت�صنع علَى عينِي {. طه ٩٣
َُِ ْ ََ َ َْ
َ ْ اَ َ ْ ُ ُ َ
}وهُ م ل ي�شعرون{
تتمثل �آية من �آيات اهلل الكربى يف �أن يدخل مو�سى "الثائر" قلب ق�صر فرعون "اجلائر". ليحت�ضن
ق�صر الطاغية من �سيكون �سبب ًا يف هالكه. لذا عق ّبت الآية بـ "وهم ال ي�شعرون"، وكما يذكر
تف�سري جممع البيان ب�أنهم ال ي�شعرون �أن هالكهم بني يدي مو�سى (عليه ال�سالم).
و�أفرد اهلل لهذه املر�أة العظيمة �سبب ًا لتكون و�سيلة �إنقاذ نبيه ومراعاته من داخل عرين الطاغية
نف�سه، ونكتة �أخرى تدل على �أنها لها مكانة يف قلب فرعون ومهابة يف الق�صر، وهي ما زالت تخفي
�إميانها، ف�أي عظمة هذه بني جنبي هذه املر�أة؟
فقد كانت تتحرك لتكون طوق جناة لنبي مهدد بالقتل من �صغره، ُلي�ضاف �إىل تكتمها لإميانها دور
ٌ ُ َّ ّ
�آخر يت�سم باملخاطرة، وهي حماية هذا الطفل. فكانت طوق جناة لنبي، وامر�أة حتتفظ بجذوة
الإميان يف ق�صر من جليد.
92
32. }و�ضرب اللَـه مثل للَذِ ين �آمنوا امر�أَت فرعون ِ�إذ قالتْ رب ابن ل عِ ندَك بيتا ف الجْنة وننِي
َ َ ْ ً يِ َ َّ ِ َ جَ ِّ َ َ َ َ ّ ُ َ َ اً ِّ ّ َ َ ُ ْ َ َ ِ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ ِّ ْ ِ يِ
َ ْ َ ْ ِ َّ ِ َ ْ َ َ َ َ ِ ِ َ جَ ِّ
مِ ن فرْعون وعمله وننِي مِ ن القوم الظالمِ ِني{ التحرمي ١١
ميكن ت�شبيه التاريخ كالكرة، والنماذج الإن�سانية املتنوعة هبوط ًا و�صعود ًا، رقيا وانحطاط ًا نتوءات
ُ ُ
بارزة على �سطح الكرة. والزمن هو الأر�ضية التي مت�شي عليها الكرة.
لذا تتكرر النماذج وقد تعود للظهور عندما يالم�س "الأمنوذج -النتوء" �أر�ضية الزمن.
وتكون تلك النماذج قمم ًا يف الر�سالة واملعنى "�سلب ًا �أو �إيجاب ًا"، قد تتمثل يف موقف حتويه �أمة �أو
ميكن �أن يحمله فرد.
لذا ت�أخذ هذه الأمثلة طريقها للخلود، فتُذكر يف تواريخ الأمم والديانات، ويتميز القر�آن الكرمي
ّ
ب�ضربه للأمثلة التي تختزل كمية هائلة من الر�سائل البينة منها وتلك التي حتتاج لت�أمل، وك�أنها
ملف م�ضغوط ،Compressed fileحتتاج فتحه لتت�أمله بالرغم من �سال�سة بيانه وو�ضوحه.
وق�صة امر�أة فرعون بالرغم من �سردها يف مواقع ب�سيطة �إال �أنّ لها من الأهمية بحيث ُي�ضرب بها
املثل. لأنها ت�شكل فئة من امل�ؤمنني، ممن لهم مكانة دنيوية مميزة، جاه ًا �أو ماال �أو �سلطة بدرجة
ً ُ ّ
ما.
ولهذه املر�أة مكانة مميزة كما اعتقد من حيث التحدي واالختيار وال�صمود وموا�صلة الدرب.
ّ
وهي متثل �أمنوذج ًا ن�سوي ًا ا�شرتك يف االختيار مع �أمنوذج امللكة بلقي�س، �إال �أن الأخرية كانت بيدها
ال�سلطة واحلل والعقد، يف حني �أن امر�أة فرعون كانت ال�سلطة لها من زوجها الفرعون فقط.
فكان لها مكانة �أنْ ُي�ضرب بها املثل يف القر�آن الكرمي. فاملوقف الر�سايل ال يت�سم باملرونة عندما
يتحرك وبال�صالبة عندما يثبت.
َ َ َ َ ّ ُ َ َ اً ِّ ّ َ َ ُ
}و�ضرب اللَـه مثل للَذِ ين �آمنوا {
�ضرب املثل �أي اتخاذه �أمنوذج ًا على مدار الأزمنة والأمكنة، �أي �أن هذا املثل هو القيا�س الأبرز
ُ
ملو�ضوع املثل.
"للذين �آمنوا"، وهنا نكتة عظيمة يف �أن املثل امل�ضروب به عام للم�ؤمنني وامل�ؤمنات، الرجال
23
33. والن�ساء دون تفريق، مما يعني �أن على امل�ؤمن �أن ي�أخذ الأمنوذج كحالة �سلوكية وفكرية و�إميانية
والتي ال يحدها جن�س ونوع �صاحب املثل، وهو هنا امر�أة.
"امر�أة فرعون" ن�سبة هذه الإمر�أة لزوجها لي�س ا�ستنقا�ص ًا ل�ش�أنها، �إذ كان بالإمكان ذكر
ا�سمها، �إال �أن لهذا ال�سرد يف الن�سبة معنى جميال ور�سالي ًا، وهو �أن من نتحدث عنه هي امر�أة
ً ً
فرعون م�صر، بكل ما يعني ذلك من مغريات وتهديدات تعي�شها هذه املر�أة.
َ َ ْ ً يِ َ َّ ِ ْ َ َ َ ِّ ْ ِ يِ
} �إِذ قالتْ رب ابن ل عِ ندَك بيتا ف الجْنة {
كانت �سرية "�آ�سية بنت مزاحم" زوج فرعون من �أول ما �أخذت نبي اهلل مو�سى وهو �صغري تدل على
نقاء �سريرة هذه املر�أة، والتي ا�ستمرت يف هذا ال�سبيل دون هوادة، فما �إنْ علم فرعون ب�إميانها
والذي ُيقال �أنها �أ�سلمت ملا عاينت معجزة مو�سى بع�صاه �أمام �سحرة فرعون، قام الأخري بنهيها
عن اتخاذ �سبيل الإميان ف�أبت! قمة يف التحدي والت�ضحية والإميان، امر�أة جتري من بني يديها ما
ْ
تريد وزوجة فرعون دولة قوية وما عليها �إال الإ�شارة ليكون ما تود وت�شتهي، ومع كل ذلك اختارت
�سبيل الإميان والر�سالة وكانت م�ستعدة متام ًا لدفع الثمن الأر�ضي من تعذيب وتَلقى كل ذلك بقلب
ِّ
م�ؤمن و�صابر. فلما رف�ضت طلب فرعون ب�صرف النظر عن �إميانها، �أوتدَ فرعون يديها ورجليها
َ َ
ب�أربعة �أوتاد و�ألقاها يف ال�شم�س، ثم �أمر �أن ُيلقى عليها �صخرة عظيمة، فلما اقرتب �أجلها }قالتْ
رب ابن ل عِ ندَك بيتا ف الجْنةِ{، قمة �إميان جت�سدت يف هذه املر�أة العظيمة التي ترى بعني تبتعد
ّ َ َ ْ ً يِ َ َّ َ ِّ ْ ِ يِ
عن كل ح�ساب �أر�ضي، فرتى امل�ستقبل بقلب اختار الإميان طريق ًا دون غريه.
َ ْ َ ْ ِ َّ ِ ْ َ ْ َ َ َ َ ِ َ جَ ِّ َ جَ ِّ
}وننِي مِ ن فرعون وعم ِله وننِي مِ ن القوم الظالِـمِ ني{
يبدو �أن حجم ال�ضيق والأذى الذي تعي�شه يف الق�صر الفرعوين من �سلوكيات وفكر وعقيدة كان
كبري ًا، فتطلب النجاة من �أمرين فرعون ك�شخ�ص وفرعون كعمل، فلقد �أ�صبح م�صدر ًا للظلم
والبط�ش، فكل ما ي�صدر منه �ضد امل�ؤمنني والر�ساليني هو �سيء و�شيطاين، لذا طلبت النجاة من
فرعون يف �شخ�صه ملا يتمتع به من خ�صائ�ص �سلبية معينة، ومن كل "عمل" �صادر منه.
"وجنني من القوم الظاملني"، ما كانت تعي�شه امر�أة فرعون ممتد من فرعون نف�سه �إىل كل
ٌ
33
34. ما يف �لق�سر، فالعقل �لمعي �لر�سمي �ل�سلبي �آنذ�ك كان م�سيطر ً�، بد�ية من فرعون و�نتهاء
باأ�سغر عامل يف �لق�سر. و�لظلم فيما هم ما�سون فيه وخائ�سون.
فلي�ست هناك ر�حة لقلب �أبي�ص و�سط �سو�د يرتبع على �لقلوب، كما �أن �ل�سمعة ل ميكنها �لبقاء
يف كهف جليدي، وهكذ� كانت �مر�أة فرعون، جذوة �إميان م�ستعلة و�سط كهف جليدي من م�ساعر
باردة �فتقدت �لإن�سانية وكل ما ينتمي لل�سمري و�لعقل.
فكانت �لغ َل َبة �لأر�سية لليد فرعون يف �إطفاء �سمعة "�آ�سية"، �إل �أن �سعلتها ظ ّلت خالدة و�ستكون
ّ َ
كذلك، لأن "حر�رتها" �آتية من �سغف �ل�سماء، وهو �ل�سغف �لذي ل يخبو� ول ينتهي �أبد ً�.
�لتاريخ �لتجارب �لب�سرية
�لزمن
43
38. ال�شريط املُعاد �س َّنة احلياة مع اختالف الظروف والأ�شكال والبيئة، �إال �أن الإن�سان هو نف�سه، ذلك
ِ
الكائن احلاوي ل�صبغة ال�سماء و�أدمي الأر�ض، النور والظالم، اخلري وال�شر، وهو �ساحة ال�صراع
التي تت�سابق فيها رايتان، راية حق وراية باطل، ومن له الغ َل َبة تكون رايته فوق هامة هذا الإن�سان.
َ
�سلوك الإن�سان هو ثبات يف تغري، �أو كمثل �صلب يف غاز، مكوناته الأ�سا�سية لها �صفاتها وميزاتها،
ويكون الإحتكاك مب�سميات جديدة و�أ�شكال جديدة لأمور ثابتة.
فقابلية الإ�صالح موجودة بالقوة يف الإن�سان، لكن يلزمها �أدوات لتكون فعال بالظاهر �أي�ض ًا. وقد
ً
تكون �أدوات البيئة املحيطة مهي�أة متام ًا لإحداث ذلك الإ�صالح، �إال �أن قابلية ذلك تكون مفقودة
ً
يف ذات الإن�سان لتغليبه كفة �إ�شباع الذات املحدودة بدال من امل�ضي يف كفة الرقي بها. وميكن �أن
يحدث ذلك حتى مع من هو �أقرب �إىل منبع الإ�صالح ونا�شره، وهم الأنبياء.
فالإ�صالح الذاتي والهداية لي�ست معادالت ريا�ضية بحتة، فكون امر�أة زوجة نبي ال ي�ستلزم �أن
تكون هي �أي�ض ًا يف م�سرية الإ�صالح.
وال �أدل على ذلك من هذه الآية الكرمية..
} �ضرب اللَـه مثل للَذِ ين كفروا امر�أَت نوح وامر�أَت لوط كانتا تْتَ عبدين مِ نْ عِ بادنا �صالينْ
َ ِ َ َ حِ َ ِ َ َ َ ّ ُ َ َ اً ِّ ّ َ َ َ ُ ْ َ َ ُ ٍ َ ْ َ َ ُ ٍ َ َ َ حَ َ ْ َ ْ ِ
َ َ َ َ َ َ ْ ُ ْ ِ َ َ ْ ُ َ َ ّ ِ َ ْ ً َ َ ُ اَ َّ َ َ َ
فخانتاهُ ما فلَم يغنيا عنهما مِ ن اللَـه �شيئا وقِيل ادْخل النارَ مع الدّاخِ لِني{ التحرمي ٠١
م�ضرب املثل هنا يف الأمنوذج ال�سلبي للذين كفروا، من خالل ال�سلوك والعقلية التي اتبعتها
امر�أتني لنبيني كرميني، وهما نوح ولوط، وما مييز بيئة هذين النبيني هو ال�صراع االجتماعي
ال�سلبي جد ًا وال�شاذ، ففي جمتمع نوح �صوتٌ غريب عن الر�سالة وطول زمن امتد ملئات ال�سنني يف
الدعوة.
ويف جمتمع لوط قفزة �سلوكية �شاذة جتاه الرجال، والقاريء ل�سرية هذين املجتمعني، يتوقع �أن
تكون زوجتي هذين النبيني معهما وب�شدة، فنوح مع طول الر�سالة وزوجته ت�شهد ذلك ب�أم عينها،
من املتوقع �أن تكون معه وت�سانده. وعند نبي اهلل لوط كذلك، فالقوم اجتهوا نحو �شذوذ غريب
يعترب الأول من نوعه يف ع�صرهم، مما كان متوقع ًا من زوجته �أن تكون مع زوجها النبي لإرجاع
الفطرة حلالها يف املجتمع عرب ر�سالته.
ومع ذلك كله، ف�إن املجتمع يف زمن هذين النبيني قد متكن من جر زوجتي النبيني لتكونا مع العقل
ّ
83
39. اجلمعي العام ال�سائر يف اجتاه خمالف خلط الإ�صالح النبوي.
} كانتا تْتَ عبدين مِ نْ عِ بادنا �صالينْ {، بالرغم من كون الزوجتني "حتت" والية زوجيهما
َ ِ َ َ حِ َ ِ َ َ َ حَ َ ْ َ ْ ِ
ال�شرعية، �إال �أن ذوبانهما يف املجتمع ال�سلبي �آنذاك كان �أكرث من الإندماج مع البيت الر�سايل
الذي تع�شنَ فيه. فاخللل يف الإلتزام باخلط الر�سايل ي�أتي من غرفة القلب قبل �أن ي�أتي من غرفة
البيت. فلي�ست هناك "ح�صانة دبلوما�سية" مطلقة من الزَ لل �أينما كان الفرد ولو حتت ظل بيت
نبوي.
ً
"فخانتاهما"، �أي خانتا الر�سالة لقربهما من م�صدرهما �أوال وخانتا الإميان بتلك الر�سالة
ثاني ًا.
فكانت امر�أة نوح تقول للنا�س �أن زوجها النبي جمنون، و�إذا �آمن �أحد بنوح �أخربت اجلبابرة من
قومه، و�أما امر�أة لوط فكانت تدل قومه على �أ�ضيافه.
واخليانة ت�أتي عند وجود �أمانة يف يد الفرد، وهما كذلك، فكونهما زوجتا نبيني ولديهما ر�سالة،
وعدم م�ساندتهما، بل الت�آمر عليهما ميثل خيانة للر�سالة، وذكر �صفتهما بامر�أتي نوح ولوط، دليل
على عظم هذه اخليانة للأمانة التي ت�أتي من و�سط بيت املبلغ والر�سايل. وبنف�س النكتة ال�سابقة
املذكورة عن "امر�أة" فرعون فكلتاهما مل تتحقق معنى الزوجية لذا مت و�صفها بـ "امر�أتي".
}فلم يغنيا عنهما من اهلل �شيئ ًا{: د�ستور �سماوي وا�ضح من �أول اخلليقة متمثل يف قابيل، وهو �أن
ٌ
الن�سبة الدموية �أو الأ�سرية ال تغني �أو ت�سمن من جوع عند العدول عن خط الر�سالة. فاملهم اتباع
الر�سالة ال ن�سب ال�شخ�ص عائلي ًا �إىل �صاحبها، وتلك اللفتة ال�سماوية العامة تتمثل يف �أن الر�سالة
يجب �أن تُتبع بغ�ض النظر عن الن�سبة واملنزلة العائلية �أو االجتماعية، وبذا تتجرد الر�سالة عن كل
رابط �أر�ضي قد ي�ؤثر يف خط �سريها، وهذا هو قوة منهج الأنبياء يف ر�ساالتهم املتعددة.
"وقيل ادخال النار مع الداخلني"، والنتيجة لتلك اخليانة، هو الدخول يف النار مع كل الذين
�سيدخلونها، ولي�س لهنّ �أي حبوة �أو "وا�سطة" تفيد يف التخفيف من عذاب النار، والتي متثل
احلالة امللكوتية لكل القلوب البعيدة عن اهلل، فيكون بعدها عن خط ال�سماء اقرتاب ًا �أكرث لنار كل
القيم ال�سلبية.
وذلك متثيل حقيقي للحديث الوارد عن الإمام علي بن احل�سني بن علي بن �أبي طالب عليه
93
40. ال�سالم: "�إن اهلل خلق اجلنة ملن �أطاعه ولو كان عبداً حب�شياً وخلق النار ملن ع�صاه ولو كان
حراً قر�شياً".
د�ستور ثابت، ومنهج ال ا�ستثناءات فيه.
ّ
ُي�سقط كل االعتبارات االجتماعية والأ�سرية وكل �شيءٍ �إال من العمل يف حد ذاته..
وهذا هو �سبيل القر�آن لر�سم مكانة الإن�سان يف احلياة، املعيار هو العمل فقط..
04