15. 51
ِّ
مـقـدمــة
�إنَّ الناظر �إىل حال العمل الثوري واجلهادي يف فل�سطني على مدار العقود
َ
ال�سابقة، يجده قائما على التطور الع�شوائي، معتمداً على الكثري من اجلهود
ً
الفردية واملبادرات الذاتية، ما يجعله مفتقراً �إىل النظرات التحليلية والتقييمية
ً
غالبا، فالتجارب الثورية ـ رغم غزارتها ـ متر مرور الكرام من غري توثيق �أو
حتليل، فرتى مئات بل �آالف العمليات الع�سكرية تُنفذ ومتر ب�إجنازاتها و�أخطائها
دون �أن جتد من يتوقف عندها فيدر�سها وي�ستخل�ص النتائج منها، ثم ي�ضعها بني
َ
�أيدي العاملني لال�ستفادة منها.
لذا، ف�إن كثرياً من ال�سلبيات ا ّلتي واجهت العمل الوطني الفل�سطيني ال زالت
ً
متكررة، وما زال ال�سقوط عند «الع�صافري» ي�شكل ن�سبة كبرية من االعرتافات،
ّ
وال زالت االغتياالت تُنفَّذ بحق املقاومني بنف�س الطريقة، ودومنا يقظة �أو
مراجعة حقيقية مت�أ ّنية.
كذلك ال زال اال�ستهتار الأمني، والف�شل املرتتّب على ا�ستخدام االت�صاالت
الإلكرتونية، والقافلة ت�سري، وال زال.. وال زال.. وال من معترب. و�إن كنا قد
بد�أنا ن�شهد يف املدة الأخرية تطوراً ملحوظا على العمل الع�سكري يف قطاع
ً
ً
غزة، وا�ستفادة طيبة من التجارب ال�سابقة، ونقال لتجارب وخربات ال�شعوب
الأخرى، التي عا�شت احلياة الثورية ومار�ست حرب الع�صابات �ضد عدوها.
16. 61
َ
�إنَّ اخللل الذي تعي�شه املقاومة الفل�سطينية هو خلل يف �إدارة العمل املقاوم
ُ
وتوجيهه واال�ستفادة منه، وتوجيه العاملني �إىل الوجهة ال�صحيحة. �أما �إدارة
ال�سيا�سة، فهي خا�ضعة �إىل ِفكر احلركة التي تدير هذا العمل، فعندما �أدارت
ً
حركة فتح واملنظمة العمل املقاوم كانت توجهه ليقطف حلوال �سلمية تو�صلها
�إىل ثمار (واهية) حددتها هي لنف�سها، وعندما �أدارت حركة حما�س عملها
املقاوم ف�إنها وجهته �إىل وجهة �أخرى ونح�سبها قد �أح�سنت يف �إدارته �إن �شاء
َّ
اهلل.
�إنَّ الثورة الفل�سطينية حتتاج �إىل مفكرين ميتازون بعقول نرية، لهم جتارب
عملية ثرية يدعمونها بدرا�سات متعمقة لثورات العامل امل�شابهة، الأمر الذي
ي�ؤهلهم �إىل درا�سة الكم الهائل من التجربة والتاريخ الثوري يف فل�سطني، و�إنني
ّ ّ
ّ
�أ�ؤكد �أنّ وجود مثل ه�ؤالء املفكرين، ي�ضمن جتاوزاً للكثري من ال�سلبيات التي
تكرر الوقوع فيها، وي�سمح بالتخطيط امل�ستقبلي البديل عن االندفاع الع�شوائي
َّ َ
الذي ن�شهده كثرياً للأ�سف.
لن جنلد ذاتنا، فاملقاومة حقّقت من الإجنازات ما نفخر به، �إال �أنّ الأمل
معقود عليها لتكون �أكرث قوة و�أبلغ �أثراً، و�أدق تخطيطا، و�أكرث ا�ستفادة
ً
وا�ستثماراً للخربات.
ّ
هذه الدرا�سة جهد املقل، �أ�سعى من خاللها �إىل ت�سليط ال�ضوء على �أبرز
جتارب (حرب الع�صابات) احلديثة، و�إجراء مقارنة �رسيعة بني النظرية العملية
لهذه احلروب والتطبيق الفل�سطيني لقواعدها، و�أخ�صِّ�ص درا�ستي للتجربة
ُ
الق�سامية التي ع�شناها و�سمعناها و�شاهدناها.
17. 71
لقد ا�ستمعت يف �سجني �إىل مئات التجارب اجلهادية الق�سامية، فخبرِت
َ ُ
الكثري من الأخطاء التي تقع فيها، وللأ�سف ف�أغلبها متكررة وم�ستمرة، وقد
ّ
ا�ستفدت من بع�ضها يف هذه الدرا�سة، وا�ست�شهدت بها مبا يتوافق مع الأبواب
ُ ُ
التي �سنطرقها.
�أ�س�أل اهلل العظيم �أن يكتب لهذا العمل القبول، ويجعل فيه اخلري والنفع
والفائدة، و�أن يكتبه يف ميزان ح�سناتنا يوم نلقاه، �إنه �سميع جميب.
21. 12
متهيد
ما هي حرب الع�صابات؟
ٌ ُّ
حرب الع�صابات هي حرب �أقل من حمدودة، وغري نظامية، بني طرفني غري
ُ
ٍ ِ ِّ ُ
متكافئني. وهي قد تكون حربا وحدها، �أو ت�شكل جزءاً من تكتيكات حرب
ً
ّ ّ ّ
تقليدية، دوافعها حتررية، �أو للتخل�ص من دكتاتورية، �أو انف�صامية عرقية، وهي
ّ
ٍ ٍ ً
غالبا ما ت�ستند �إىل حركة �سيا�سية تتولىّ �إدارتَها.
�إذن فهي حرب غري نظامية، لأنها ال تعتمد �أ�سلوب احلرب ال ّنظامية القائمة على
َ ّ ٌ
املواجهة املبا�رشة، فحرب الع�صابات تقوم على العمل ال�رسِّي، وا�ستخدام �أ�سلوب
املجموعات ال�صغرية املنف�صلة، وانتهاج �أ�سلوب الكر والفر واخلديعة والكمائن
وعدم الظهور، واالكتفاء با�ستخدام ال�سالح اخلفيف لتحقيق هذا الغر�ض.
بينما احلروب النظامية (الكال�سيكية)، ف�إنها تقوم على تقابل جي�شنيِ
َ
نظامينيِ �أو �أكرث، تدور بينهم معارك ع�سكرية كبرية ذات طابع معلوم، وتعتمد
َّ
هذه احلرب على نظام اجليو�ش يف التعبئة والتنظيم والقتال، وا�ستخدام ال�سالح
ٌ
الثقيل من املدفعية والدبابات والطائرات وال�سفن احلربية. فهي �شكل خمتلف
ٌ
من التكتيكات واخلطط والآليات، تختلف يف �أهدافها وو�سائلها و�أ�ساليبها
وميزاتها ومبادئها التي ت�ستند �إليها.
22. 22
وحرب الع�صابات ت�ستند �إىل حركة �سيا�سية تقود العمل املقاوم وتوجهه
ّ
الوجهة التي ر�سمتها لنف�سها، تقيم �أداءه، وتقطف ثماره. هذه احلركة تقوم
ّ
مبوازاة العمل املقاوم بخلق وعي �سيا�سي يرقى بوعي ال�شعب ليكون قادراً
ِ ٍّ ٍ ِ
على حمل �أعباء وتبعات الثورة. فحرب الع�صابات هي ذراع ع�سكري حلركة
�سيا�سية، وهذا ما �أثبته (ماو) يف مبادئ ثورته حني قال: «�إنّ ال�شيوعية هي
ّ
ُ
القائدة حلرب الع�صابات ال�صينية»(1).
ّ
�أما دوافع حرب الع�صابات فمتعددة: منها ما كان دافعه حترريا طارداً
ّ ً ّ
لالحتالل؛ كما الثورة الفل�سطينية والثورة اجلزائرية، ومنها ما كان هدفه
التخل�ص من الدكتاتورية؛ كالثورة ال�صينية والكوبية، ومنها ما كان لدوافع
انف�صالية؛ كثورة الأكراد على احلدود الرتكية العراقية الإيرانية، والثورة البا�سكية
ّ
املم َّثلة بحركة (�إينا) االنف�صالية.
وحرب الع�صابات كما ذكرنا تكون بني طرفني غري متكافئني، الأول جي�ش
ٌ
ً َ ً
نظامي يتبع لدولة ذات كيانٍ و�سيادة، ميلك عتاداً ثقيال و ِفرقا وت�شكيالت
ٍ ِ ٌّ
مقاتلة، �أما الطرف الآخر فمجموعات مقاتلة مكونة من �أفراد ال ميلكون �إال
ٌ َّ ٌ ٌ
ً ً ً
�سالحا خفيفا مدعوما بالإميان والإخال�ص يف االنتماء.
ً
فحرب الع�صابات �أ�سلوب ي�ستخدمه الطرف ال�ضعيف ع�سكريا، لي ّتقي
ٌ
التفوق ا ّلذي يتمتع به خ�صمه، ويتجنب الفارق العددي والتكنولوجي،
َ َ ّ َ
ً ً
في�ستخدم �أ�ساليب بدائية ن�سبيا، و�أ�شكاال يف املواجهة ال تنفع معها كرثة عدد
جيو�ش اخل�صم وثقل عدته، مما ي�ضطر اخل�صم �إىل مالحقته ومواجهته بالطريقة
َ
1 احلرب واال�سرتاتيجية /يهو�شيفت هركيف.
23. 32
ّ
التي يفر�ضها الطرف ال�ضعيف، وبالتايل يتخلى هذا اخل�صم عن تفوقه الهائل،
وال ي�ستطيع اال�ستفادة منه كثرياً.
ويالحظ �أنّ حرب الع�صابات قد تكون (ا�سرتاتيجية)، فتكون هي طريقة
َ
القتال الأ�سا�سية الوحيدة، كما هو احلال يف التجارب الفيتنامية وال�صينية
ً
والكوبية والفل�سطينية، والتي هي مو�ضوع بحثنا هنا، وحينها تكون حربا
ً ً
مفتوحة زمانيا، �أهدافها �أكرث �شمولية وعمقا وحيوية.
ً
وقد تكون حرب الع�صابات تكتيكا، فتكون �إحدى طرق القتال امل�ساندة
للقتال التقليدي الدائر بني جيو�ش نظامية، فت�ستخدم هذه اجليو�ش �أ�ساليب
قتالية حمددة تخو�ضها وحدات خا�صة مدربة على هذا اللون من القتال، تقوم
ب�أغرا�ض حمددة؛ كوحدات من الكوماندوز. ويف ذات الإطار، قد تعمد بع�ض
الدول املتحاربة �إىل خلق ع�صابات غري نظامية كي تخدم �أغرا�ضها.
َ
لقد �أُطلق على حرب الع�صابات عامليا ا�سم (جاريال)، وهي كلمة التينية
ً
تعني (احلرب ال�صغرية)، ولأنه م�صطلح عاملي يعرب عن م�صطلحات اجلهاد
والثورة واملقاومة والن�ضال واالنتفا�ضة، ف�سن�ستخدمه نحن يف درا�ستنا.
وقد تكون الع�صابة كلمة غري حمببة �إىل النف�س الرتباطها ببع�ض املعاين ال�سلبية
ّ َّ
يف الأذهان، �إال �أنها لي�ست بالكلمة ال�سلبية يف حقيق ِتها وجوهرها، فقد وردت
ّ
يف حديث لر�سول اهلل [ يف �صحيح م�سلم: «اللهم �إنْ تهلك هذه الع�صابة من
َّ ٍ
�أهل الإ�سالم؛ ال تُعبد يف الأر�ض».
24. 42
ملحة تاريخية:
تُعد حرب الع�صابات �صورة قدمية من �صور ال�رصاع، �سبقت احلرب النظامية
ُّ
يف وجودها، ذلك �أن النزاعات وال�رصاعات بد�أت بني قوات غري نظامية،
ثم �أخذت هذه القوات تُـعـد نف�سها، وتزيد من قدرتها وترفع من كفاءتها،
ِ ُّ
وت�ضاعف من قواتها ملواجهة الهجمات امل�ضادة والرد عليها ب�رسعة وقوة،
وت�شن هجمات ا�ستباقية خاطفة، فبد�أت ت�شكل القوات �شبه النظامية، ومن ثم
النظامية، لتتحول ال�رصاعات �إىل حرة نظامية ت�شبه واقع احلال هذه الأيام.
ولقد بد�أت حرب الع�صابات على �شكل غارات خاطفة ومتكررة بني مقاتلي
القبائل املختلفة يف م�ساع لل�سيطرة على الكلأ واملاء، ول�ضم �أرا�ض جديدة �إىل
ٍ ِّ
ممتلكات القبيلة وزعيمها، وا�س َتخدمت هذه الغارات بع�ض الأ�ساليب البدائية
َ اّ
حلرب الع�صابات؛ كالكر والفر، والتمويه واملباغتة، �إل �أن عنا�رصها بقيت
ّ ِّ
غري مكتملة، فال تنطبق عليها مبادئ حرب الع�صابات املعا�رصة ب�شكل فعلي.
ومن �أ�شهر حروب الع�صابات القدمية يف تاريخنا العربي: (حرب الب�سو�س)، و
(داح�س والغرباء). ثم جاءت جتارب حروب الع�صابات يف ع�رص النبوة، ومن
�أبرزها جتربة ال�صحابي اجلليل (�أبو ب�صري).
ً ً
وتطورت حرب الع�صابات الأخرية (احلديثة) �شيئا ف�شيئا مع التجارب
الثورية الناجحة التي خا�ضتها ال�شعوب �ضد امل�ستعمر وامل�ستبد، ومع كل جتربة
ً ً
جديدة كانت (اجلاريال) ت�أخذ �شكال �أكرث و�ضوحا، وتثبت لها قواعد ومبادئ
ّ
و�سمات جديدة، حتى ت�شكلت مدار�س ثورية متثل الأ�شكال املختلفة حلرب
الع�صابات املدنية والريفية.
25. 52
ولقد ا�ستطاعت حرب الع�صابات عرب تاريخها حتقيق جناحات وانت�صارات
و�إجنازات؛ زادت من �أهميتها، وقناعة املجتمع بها.. فقد متكنت من طرد
امل�ستعمر مهما عظمت قوته، وحترير البالد املحتلة مهما طال احتاللها، وحتقيق
الأهداف املرجوة واملر�سومة، وحتقيق التقدم والتفوق، على الرغم من الفرق
ال�شا�سع يف ميزان القوى ل�صالح عدوها.
ومن الأمثلة املعا�رصة التي انت�رصت فيها حرب الع�صابات على عدوها:
الثورة ال�صينية يف مواجهة الدكتاتورية الداخلية واال�ستعمار الياباين، والثورة
الفيتنامية يف مواجهة الواليات املتحدة الأمريكية، والثورة اجلزائرية يف وجه
ً
اال�ستعمار الفرن�سي، والثورة الكوبية يف وجه الدكتاتور ّية املدعومة خارجيا،
ّ
والثورة الأفغانية يف وجه ال�سوفييت.
***
29. 92
مدار�س حرب الع�صابات
ً ً
و�سعيا لالنتفاع من جتارب الآخرين، ونقال خلرباتهم، ف�إننا �سنعر�ض
ب�إن�صاف مناذج من حروب الع�صابات احلديثة التي �شكلت مدار�س يحتذى
بها وجتارب تُدر�س، و�أبرزها (ال�صينية، الكوبية، الفيتنامية).. ونعر�ض معها
َّ
ً
(التجربة اجلزائرية)، وقبلها جميعا نعر�ض خري جتربة عرفتها الإن�سانية، �أال وهي
التجربة النبويّة املحمد ّية.. نعر�ض منها وم�ضات خاطفة تبارك لنا م�رشوعنا،
َ ً ٍ ّ
ونغرتف من معانيها يف ا�ستنتاجاتنا �إن �شاء اهلل.
�أوالً: حرب الع�صابات يف ع�رص النُّبوة:
ّ
ُ
ا�ستخدم الر�سول [ و�صحاب ُته الأطهار مبادئ حرب الع�صابات ب�شكل
َ
ّ
كبري، بل ويف مرحلة مبكرة من الدعوة واجلهاد.. ولعل ممار�ساتهم �أ�صلت
ّ
ً ً ً
وابتكرت بع�ضا من تلك املبادئ، حتى �أ�صبحت مدر�سة متكاملة اقتدى بها
ُ
قادة الفتح الإ�سالمي وجند الإ�سالم على مر الع�صور.
و�سنتحدث هنا عن هذه املدر�سة باخت�صار، حيث �سنطرق بع�ض العناوين
ّ
واملواقف التي برزت فيها فنون حرب الع�صابات ومباد�ؤها.
30. 03
جمموعات �أبي ب�صري:
ُ
كما نعلم، فقد عقد ر�سول اهلل [ مع م�رشكي مكة �صلح احلديبية، وقد
َ
ت�ضمن هذا ال�صلح بنـداً اعتربه كبار ال�صحابة جمحفا بحق امل�سلمني، بل رف�ضوه؛
ً ّ
لوال طاعتهم لر�سول اهلل [.
ً
وهذا الن�ص هو: (من جاء �إىل املدينة من �أهل مكة م�س ِلما فعلى امل�سلمني
ُ
ً
رده �إىل �أهله، �أما من جاء �إىل مكة من �أهل املدينة م�رشكا فلي�س على �أهل مكة
ّ
رده)..
ولقد ا�ستطاع ال�صحابي املجاهد عتبة بن �أ�سيد (�أبو ب�صري) �أن يفر من قيده
َّ
الذي كبله به خا ُله، الأخن�س بن �رشيف، وفر �إىل مدينة ر�سول اهلل [، و�أقام فيها
َّ ّ
�أياما بني �إخوانه م�رسوراً بدينه �سعيداً ب�إميانه، وملا علمت قري�ش بذلك �أر�سلت من
ً
امل�رشكني من يرده �إليهم، وحدثوا ر�سول اهلل بذلك، فما كان من ر�سول اهلل [
ّ ّ
َ ٍ
وفاء للعهد �إال �أنْ رده �إليهم على كره من ال�صحابة.
ّ ً
ويف طريق العودة، احتال �أبو ب�صري على حرا�سه، فقتل �أحدهما، بينما
ُ ّ
ّ
متكن الثاين من الفرار �إىل املدينة، فتبعه �أبو ب�صري.. وهناك مل يجر�ؤ امل�رشك
على ا�صطحاب �أبي ب�صري معه ثانيةً، بعد ما ر�أى ما ح�صل ب�صاحبه، وعندها
�أوم�أ ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ب�إميائة خفية التقطها �أبو ب�صري و�سارع �إىل
ً
تنفيذها، فقال عليه ال�سالم «ويح �أمه! ُي�سعر حربا لو كان معه رجال».. فانطلق
َّ
َّ ٍّ َ
�أبو ب�صري �إىل �أر�ض حمايدة يجمع الرجال وكل فار بدينه من �أر�ض الكفر، حتى
جتمع لديه جمموعات مقاتلة، واتخذت لنف�سها قاعدة ع�سكرية قريبة من �ساحل
ّ
البحر.
31. 13
ثم بد أ� بالإغارة على قوافل امل�رشكني و�سلبها، حتى ت�رضرت جميع قوافلهم،
وفقدوا الأمان حتى على �أنف�سهم، فما كان من م�رشكي مكة �إال �أن بعثوا بوفدٍ
�إىل ر�سول اهلل [ يف املدينة يطلبون منه �أن يتنازل عن ال�رشط الذي و�ضعوه هم،
ً
وهو ال�رشط الذي ذكرناه �آنفا. وبذاك حقّق �أبو ب�صري هدفه، وعاد جند الإ�سالم
َ
�إىل مع�سكرهم و�إىل مدينة ر�سول اهلل [ والن�رص ي�سري بركبهم(1).
االغتياالت:
ولقد ا�ستخدم ر�سول اهلل [ مبد أ� االغتياالت يف العديد من املرات التي ر�أى
فيها �أنه احلل الأمثل، فيحقن بذلك دماء امل�سلمني ويفت من ع�ضد امل�رشكني
ّ
ََ َ
ويفرق �شملهم ويدب الهلع يف قلوبهم، وقد حققت عمليات االغتيال يف
ُّ ّ
جمملها �أهدافَها بنجاح، ومن �أمثلة االغتياالت يف عهد النبوة؛ اغتيال (كعب
بن الأ�رشف)، و (�سالم بن �أبي حقيق)، و (�أبو عقل)، و (�أبو رافع)، و (ابن
�سنينة).. وجميعهم يهود. و (�سفيان بن خالد الهنديل) و (ع�صماء بنت
مروان).. وغريهم.
ونقف مع �أحد هذه الأمثلة، وهي عملية اغتيال ر�أ�س الكفر اليهودي: (�سالم
بن �أبي حقيق).. فقد جمع عدو اهلل (ابن �أبي حقيق) اليهود من حوله، و�أخذ
َ َ
يحر�ض على امل�سلمني، ومتادى يف التعري�ض بهم وب�أعرا�ضهم، ويف �إيذائهم
ّ
بكل و�سيلة ممكنة.. ولذا كان قرار قتله.
1الرحيق املختوم، املباركفوري.
32. 23
اختار ر�سول اهلل [ �أمري املجموعة مبوا�صفات خا�صة جتعله قادراً على �إنفاذ
املهمة بنجاح، فهو (عبد اهلل بن عتيك)، جماهد �صادق خمل�ص يف دينه، �شجاع
ومقدام، ال ي�ساوره الرتدد يف �أ�صعب املواقف، ويتقن اللغة العربية ـ لغة اليهود،
وبالتايل ميكنه التعامل معهم والفهم عليهم و�إفهامهم �إن لزم الأمر. ثم �إن �أمه
بالر�ضاعة يهودية، مما يوفر له مربراً كافيا لدخول ح�صن اليهود، ويوفر له ملج�أ
ً
يف حال اقت�ضت احلاجة. وترك ر�سول اهلل [ لعبد اهلل �أن يختار جمموعته،
وذلك كي يختارهم �ضمن موا�صفاته، فيطمئن �إليهم و�إىل قدراتهم، ويكونوا
على توافق كامل ي�سهل عليهم �إجناح مهمتهم.
انطلق عبد اهلل و�إخوانه الثالثة �صوب ح�صن خيرب، حيث يقيم (�سالم)،
بعد �أن جمعوا ما توفر من معلومات عن عدوهم. وكان همهم الأول دخول
احل�صن، و�إيجاد ملج�أ �آمن بداخله ي�سمح لهم بر�صد الهدف عن قرب والقيام
بعمليتهم على ب�صرية كاملة، فكان ات�صال عبد اهلل ب�أمه التي �سمحت لهم بالإقامة
ّ
يف بيتها، وبالتايل ا�ستطاعوا دخول احل�صن ب�صحبتها، ومن ثم �إيجاد ملج�أ ق�ضوا
َ
فيه مدة اال�ستعداد والر�صد ثم االنطالق. وملا جتمعت لديهم املعلومات الالزمة
والكافية لتنفيذ املهمة، واملتوفرة عرب الر�صد واملراقبة، و�ضع املجاهدون خطتهم،
وانطلقوا للعمل متوكلني على اهلل، م�ستفيدين من قدرات �أمريهم، وحتديداً يف
احلديث باللغة العربية، حيث كانت مفتاحهم للو�صول �إىل داخل ق�رص عدو اهلل
(�سالم بن �أبي حقيق)، وهناك ا�ستطاعوا قتله واالن�سحاب ب�أمان، دون �أن يمُ�س
َّ
�أحدهم ب�سوء(1).
ُ
1 نور اليقني.
33. 33
ال�ســرايا والبعـــوث :
ُ
بعث ر�سول اهلل [ ع�رشات ال�رسايا والبعوث املجاهدة لتحقيق �أهداف
َ
ع�سكرية مدرو�سة، �سواء كانت دفاعية ل�صد خطر قادم، �أو هجومية لتحقيق
�إجناز وتقدم.
هذه ال�رسايا عملت على طريقة حرب الع�صابات يف معظمها؛ فقد اعتمدت
ب�شكل �أ�سا�سي على مبد أ� املباغتة وال�سية. ولذا كان الأمر النبوي لقادتها ب�أن
رِّ
ً
ي�سريوا ليال ويكمنوا نهاراً، و�أن ال يحدثوا عن وجهتهم. بل �إنه ا�ستخدم �أول
ّ
َ ُ
ر�سالة مغلقة ال يعلم بنودها وفحواها حاملها، فقد �أر�سل (عبد اهلل بن جح�ش)
َ
على ر�أ�س �رسية، ومل يخربه عن وجهته، بل �أعطاه ر�سالة مغلقة، وطلب منه �أن
ال يفتحها �إال بعد م�سري يومني، و�أن يقوم بقراءتها على جنده، ومن ثم يخيرّه
يف اال�ستمرار �أو االن�سحاب، وبذلك تكون وجهة ال�سرّ ّية جمهولة حتى على
ِ
جندها.
ناهيك عن �أن عدداً من امل�سلمني مل يكونوا يعلمون بو�صول قوات امل�سلمني
ِ ُ
�إال يف اللحظات الأخرية، فها هم ع�رشة �آالف مقاتل َي�صلون مكة لفتحها، وال
يعلم �أهلها بذلك �إال وامل�سلمون على �أبوابها. ويكفي يف هذا املجال الإ�شارة �إىل
�أن ر�سول اهلل [ مل يعلن عن وجهة �رسية �أو غزوة طوال حياته �إال غزوة تبوك،
ٍ ٍ
وذلك لبعد املكان وق�سوة الطريق وحمنة القحط واجلوع التي كانت؛ في�ستعد
ُ
امل�سلمون لها.
***
34. 43
ثانياً: املدر�سة ال�صينيّة (املاويّـة):
ِّ
هي جاريال ريفية كبرية، رافقَها �أن�شطة متعددة الأ�شكال، موجهة خللق
ِ ّ ٌ
وعي �سيا�سي لدى �أفراد ال�شعب، قادها احلزب ال�شيوعي ال�صيني، وكان هدفها
ٍّ ٍ
ال�سيطرة على احلكم.. فحاربت العدو اخلارجي، واال�ستبداد الداخلي.
بد�أت الثورة ال�صينية باالحتجاجات ال�شعبية التي قادها احلزب ال�شيوعي
ّ
ّ
ال�صيني يف العقد الثاين من القرن الع�رشين، ثم بد�أت هذه االحتجاجات تتنظم
ً ً
�شيئا ف�شيئا، �إذ �أن�ش�أ احلزب 02 نقابة عمالية من عمال املناجم وعمال �سكك
ّ
احلديد، ثم دخلت هذه النقابات يف �إ�رضاب قوي عام 2291م، قاده الزعيم
ال�صيني (ماوت�سي تونغ)، الذي �أ�صبح الأب الروحي للثورة ال�صينية.
�أطلق (ماو) �رشارة الثورة يف الأرياف، بعك�س تعاليم املارك�سية، فقد حترك
من (هوتان) حني تر�أّ�س قاعدة �أول نواة ثورية، وحرك االحتادات الفلاّحية
ّ َ
لتحقيق هدفه، و�أطلق عليها ا�سم: (احلرب الأهلية الثورية الأوىل).
بادر (ماو) يف �سنة (7291م) �إىل بناء جي�ش ثوري، بهدف حترير مناطق
ي�صعب مهاجمتها، وذلك لإقامة قاعدة انطالق على �أر�ضها، معتمداً يف ذلك
على عمال املناجم والفالحني، �إ�ضافة �إىل بع�ض اجلنود الثائرين الفارين من قيادة
ّ
( الكومنتانغ).
بد�أ (ماو) بتنظيم (انتفا�ضة ح�صاد اخلريف) من خالل فرقته الأوىل، �إال �أنّ
حماولته تلك مـ ِنـيـت بالف�شل، وتكبدت قواته خ�سائر فادحة، و�أُلقي القب�ض
َ ّ ُ َ
عليه، غري �أنه متكن من الفرار.
جل� (ماو) �إىل اجلبال، حيث �أن�ش� قواعد �سوثياتية، ومناطق حكم تدير كل
أ أ
35. 53
الأمور احلياتية والع�سكرية، ثم عمد �إىل �إن�شاء (قواعد حمراء) �أخرى، فات�سعت
رقعة �سيطرته.. مما �أثار ردة فعل عنيفة لدى (ت�شيانغ كاي ت�سك) الذي حاولت
ّ ٍ
قواته تطويق قوات (ماو ) وجي�شه، �إال �أن (ماو) بادر باالن�سحاب بقواته �إىل
ال�شمال الغربي، وذلك ما بات يعرف با�سم (امل�سرية الكربى) التي ا�ستغرقت
ً ً
عاما كامال، عرب فيها 01 �آالف كيلو مرت، وكانت قواته قد بد�أت بـ (001)
ّ
�ألف ثائر، وانتهت بـ (02) �ألف ثائر فقط، حتى و�صل �إقليم (�شان �سي ).
ً
ويف العام (7391م) كانت اليابان قد �شنت هجوما على ال�صني، فتحالف
(ماو) مع (ت�شيانغ كاي) يف �صد العدوان الياباين، وا�ستمر احلال على ذلك حتى
ِّ
العام 5491م، حتى و�ضعت احلرب �أوزارها با�ست�سالم اليابان. وعندئذ جتدد
َّ
القتال بني الطرفني؛ ال�شيوعي بقيادة (ماو)، واليميني بقيادة (ت�شيانغ )، وا�ستمر
القتال دائراً بني الطرفني حتى العام 9491م، حيث ا�ستطاع ال�شيوعيون
االنت�صار، والتج� (ت�شيانغ ) �إىل جزيرة تايوان و�أقام حكومة ال�صني الوطنية.
أ
هذا وقد اع ُتـبِـر (ماوت�سي تونغ)، مفكر الثورة ال�صينية، ووا�ضع �أُ�س�سها،
َ ِ َ َ
حتى �سميت منظومة �أفكار الثورة ال�صينية بـ (املاوية) ن�سبة له، ومن الكتب التي
ً ُ ِّ
و�ضعها يف هذا املجال: «امل�شكالت اال�سرتاتيجية للحروب الثورية يف ال�صني»
و «يف احلرب طويلة الأمد»، و «امل�شكالت اال�سرتاتيجية حلرب الأن�صار �ضد
اليابان». �إ�ضافة �إىل عدد �آخر من امل�ؤ َّلفات التي �أ�صبحت مدر�سة �أ�سا�سية من
ً ً ً
مدار�س حرب الع�صابات احلديثة(1).
1 املو�سوعة ال�سيا�سية، د. عبد الوهاب الكيايل.
36. 63
من ر�ؤى (ماو) يف حرب الع�صابات:
- يرى ماو �أن حرب الع�صابات تت�ألف من ثالث مراحل:
1- االن�سحاب اال�سرتاتيجي: يكون العدو فيه هو الأقوى، والثورة ت�شاغله
وت�رضبه رغم �ضعفها.
2- الت�ساوي اال�سرتاتيجي: ي�ضعف العدو و ُي�ستنزف، وتقوى الثورة وتبد�أ
بالتحول �إىل قوات نظامية.
ً ً
3- ال�رضبة اال�سرتاجتية: تتغري الثورة لت�صبح جي�شا نظاميا وتُنزل بالعدو �رضبة
قوية لتحقِّق الن�رص.
ولهذه املراحل �أثران:
�أ- ع�سكريا ومنهجيا: العمليات التكتيكية ت�أخذ بعداً ا�سرتاتيجيا، واملراحل
ً ً ً
تعطي اجلاريال القدرة على زيادة خلق املبادرة والزيادة التدريجية يف
حجم العمليات.
ً ً
ب- نف�سيا و�أيدولوجيا: اجلاريال تبث روح الأمل يف نفو�س ال�شعب
واملقاتلني، فترُِيهم ال�ضوء يف نهاية النفق، فيفهمون �أن الأمل واملعاناة
والت�ضحية �سيكون لها ثمار ونتائج(1).
ويرى (ماو) �أن حرب الع�صابات تتنا�سب مع الدول الوا�سعة كال�صني، التي
حررت مقاطعة (ينالدا) ف�أ�صبحت مركزاً لها.
1احلرب واال�سرتاتيجية، يهو�شيفت هركيف.
37. 73
كما يرى �رضورة االعتماد على الذات من الناحية اللوج�ستية، بحيث يكون
�سالح الثورة غنيمة من عدوها، حيث يقول: «مع�سكر دعمنا يف وا�شنطن،
ً
و�ضابط التوريد الذي ينقله لنا هو ت�شانغ كاي �شك».
و�أخرياً، ف�إن من املبادئ التي �أكد عليها (ماو) كذلك، هو �أنه ال جناح للثورة
�إال باالعتماد على الفالحني.
***
ثالثاً: املدر�سة الكوبيّـة:
ميكننا اعتبار الثورة الكوبية (جاريال) ريفية �صغرية، ارتبطت ب�شخ�ص
ِ ّ
قائدها (فيدل كا�سرتو)، والذي ال زال على ر�أ�سها. فقد قام هذا املحامي ال�شاب
ِ
بجمع (021) ثائراً من الناقمني على حكم (بات�ستا)، وهاجموا ثكنة (فونكادا)
ّ
الع�سكرية، يف (62/7/3591م)، �إال �أن هذا الهجوم عد انتحاراً من ِق َبله..
ُ َّ
ً
حيث كان عدد جنود الثكنة �ضخما، يزيد على (0001) جندي، فباء الهجوم
ٍ َّ ُ ُ َ
بالف�شل الذريع، وق ِتل معظم املنا�ضلني، ومت �أ�سرْ جمموعة منهم، على ر�أ�سهم
كا�سرتو نف�سه، وحكم عليه بال�سجن (51) عاما، �إال �أنه �أُفرج عنه بعد عامني.
ً
وفور خروج كا�سرتو من ال�سجن، توجه �إىل املك�سيك، وهناك جمع بع�ض
�أن�صاره، و�أ�س�س معهم حركة (62 متوز)، ثم �أعد عدته، ودرب �أتباعه، وعاد
ّ ّ َ ّ َ
ً
بهم على ظهر �سفينة (غرانا)، ي�صحبه (18) منا�ضال، �أبرزهم املنا�ضل املعروف
ُ
(ت�شي جيفارا).
َ
وقد �أطلق ال ُّثوار ال�رشارة الأوىل لثورتهم من جبال (�سريا ماي�سرتا)، حتت �شعار
38. 83
(�سنعي�ش هذه ال�سنة �أحراراً �أو منوت �شهداء). ويف نهاية العام كان الفالحون قد
ا�ستجابوا للثورة، ثم ا�ستجابت جبهات �أخرى يف جبال (دوليكامرياي) ويف
ُ
�شمال (�سانتياغو)... وهكذا ا�شتعلت البالد، وهبت الثورة يف كامل القطاعات
ّ
واملناطق.
بد�أت الثورة يف �أيامها القا�سية بالزحف �إىل اجلبال �صوب املدن، و�رشعت
يف دخول املدن وفتحها دومنا عناد كبري، بدءاً من مدينة (�سانتاكالرا) التي فتحها
(ت�شي جيفارا)، وانتهاء بالعا�صمة (هافانا) التي فُتحت على يد( فيدل كا�سرتو)
ً
يف مطلع عام (9591م).
ُيذكر �أن ت�شي جيفارا حاول نقل التجربة �إىل (بوليفيا)، فانتقل �إليها ب�صحبة
جمموعة من الثوار، �إال �أنه ف�شل يف ذلك لعدم قدرته على جمع ال�سكان حوله،
فانتهت ثورته بعد (11) �شهراً مبقتله يف �أكتوبر عام 7691(1).
من �سمات الثورة الكوبية:
- اعتمدت على ال�شخ�صانية �أكرث من العقالنية، فقد طرح كا�سرتو ورفاقه الثورة
ّ
والعمل امل�سلح دون �أن يطرحوا �أو يناق�شوا م�س�ألة طبيعة ال�سلطة القادمة
والأيدولوجية التي تتب ّناها، بل �إنها مل تتنب املارك�سية �إال بعد عامني من
ّ َّ
انطالقها.
- اعتمدت الثورة على اجلبال والأرياف مقراً لها، واعتربتها الرتبة اخل�صبة
واملكان الأمثل لها، ولي�س املدينة والتجمعات ال�سكنية ال�ضخمة، وهناك
1 املو�سوعة ال�سيا�سية، د. عبد الوهاب الكيايل.
39. 93
كونت القواعد املتحركة التي تعمل على ن�رش الأفكار وتوجيه املقاتلني الذين
ّ
ينت�رشون بني ال�سكان.
- اعتمدت الثورة على تنفيذ عمليات ت�شكل الدعاية امل�سلحة التي تُعر�ض
ً
�أمام العامة ك�أداة تَ�سيِي�س تخلق �أجواء وظروفا �سيا�سية و�إعالمية، وحت�شد
ً ً ٍ ِ
الأن�صار والثوار، فكان الفالحون الب�سطاء �أكرث ت�أثراً بالبطوالت والأعمال
ُ
من الأفكار والأقوال.
- مل تعتمد على وجود مراحل حمددة ووا�ضحة النت�صارها.
ًّ ً
- يعترب البع�ض �أنها ال تقيم وزنا حقيقيا مل�شقّات الثورة، فهي �رضب من املغامرة
ٌ
غري املح�سوبة، والتي تقود �أ�صحابها �إىل النهاية امل�أ�ساوية، كما حدث مع
جتربة 62 متوز.
- نادى (كا�سرتو) ب�إمكانية بدء الثورة يف كل زمان ومكان مبجرد وجود ثور ّيني
م�ستعدين للقتال، �سماهم هو با�سم (ب�ؤرة الثورة)، ودون احلاجة النتظار
ّ ّ
ظروف ثور ّية مواتية.
رابعاً: الثورة الفيتنامية (املدر�سة الفيتنامية):
بد�أت الثورة الفيتنامية كثورة �شعبية يف العام (6591م)، وبد�أت الثورة
تت�صاعد حتى بلغت ذروتها يف العام (0691م) بت�أ�سي�س (جبهة التحرير الوطنية
ـ فيت كنغ) وزعيمها (هو�شي من).
يف العام (3691م) عملت �أمريكا على �إ�سقاط نظام (نغودين يام)،
وو�ضعت قوتها يف امليزان، ثم تبع ذلك �سل�سلة انقالبات ع�سكرية زعزعت
40. 04
ً
كيان الدولة، فوجدت �أمريكا نف�سها م�ضطرة لدخول حرب حقيقية، تدفع فيها
َ
قواتها وترمي بثقلها، نظراً للدعم الكبري الذي قدمته جمهورية فيتنام الدميقراطية
ال�شمالية لثوار (�ألفيت كنغ).
وامتد م�رسح العمليات لي�شمل كامل (الهند ال�صينية)، وكانت الأ�سلحة
وامل�ؤن والعتاد واجلنود وخمتلف �أ�شكال الدعم اللوجي�ستي تدخل فيتنام عرب
طريق (الالوح�س). كما كانت تتواجد يف كمبوديا مبوافقة �أمريها يف خميمات
ومع�سكرات وم�ست�شفيات ومدار�س ثورية تابعة لـ (�ألفيت كنغ)، ويف العام
(8691م) قامت اجلبهة بهجمات �شاملة، �سميت (هجوم التيت)، �أذهلت
ُ ّ
العامل ب�أ�رسه.. وعـد هذا العام عام املنعطف التاريخي يف حرب فيتنام، حيث
َ ُ َّ
ُ ً
وافقت �أمريكا التي متلك قوة ت�صل �إىل ن�صف مليون جندي بعدتهم وعتادهم
على �إجراء مفاو�ضات �سالم يف باري�س، �إال �أن احلرب َبقيت م�شتعلة طوال مدة
ً َ ِ
ً
املفاو�ضات التي ا�ستمرت طويال حتت وط�أة الهجمات التي مل تهد�أ.
ويف العام 0791م �أعلن الرئي�س الأمريكي (نك�سون) عن ان�سحاب �شكلي
من �إدارة احلرب يف فيتنام، مع �سحب جزء من القوات الع�سكرية املتواجدة
هناك، �إال �أنّ ذلك مل ُيوقف اال�ستعمار، وبقيت احلرب يف ا�شتعالها. حتى كان
العام 2791م، حيث حدث هجوم الربيع الكبري، والذي �ساهم يف ترجيح
الكفة ل�صالح (�ألفيت كنغ).. ويف مطلع عام 3791م، وبعد مفاو�ضات �شاقة،
وقِّعت معاهدة باري�س بني �أطرافها: الواليات املتحدة الأمريكية، وجمهورية
ُ
فيتنام الدميقراطية، وجمهورية فيتنام (�سايفون)، واحلكومة الثورية امل�ؤقتة
جلمهورية فيتنام اجلنوبية.
ولكن ب�سبب ال�صعوبات وتباط�ؤ �أمريكا يف �سحب م�ست�شاريها، قامت
41. 14
احلكومة الثورية امل�ؤقتة بهجوم ع�سكري كبري ووا�سع النطاق على طول احلدود
الكمبودية الفيتنامية يف نهاية عام 4791م، ومل ي�أت �شهر ني�سان من العام
(5791م) حتى وقعت املدن الرئي�سية يف فيتنام بيد الثوار، وكان احلدث الأهم
�سقوط العا�صمة �سايغون بيد الثوار، فغيرّوا ا�سمها �إىل (هو�شي من)(1).
***
خام�ساً: حرب التحرير اجلزائرية (ثورة املليون �شهيد):
ُ ً ً
كانت ثورة عظيمة يف وجه اال�ستعمار الفرن�سي اال�ستيطاين، قام بها ال�شعب
اجلزائري بقيادة جبهة التحرير الوطني، وا�ستطاعت انتزاع ا�ستقالل اجلزائر بعد
ُّ
ً
ا�ستعمار دام (031) عاما.
انطلقت �رشارة الثورة يف 03/11/4591م، والذي ي�صادف عيد القوميني
ِّ
القدي�سني عند الأوروبيني، حيث بد�أت مبجموعات م�سلحة �صغرية، متلك بع�ض
ِّ
الأ�سلحة البدائية، ثم �أعلنت عرب بيانٍ لل�شعب اجلزائري عن هدفها، ودعت �أبناء
ال�شعب لالن�ضمام �إليها.
وقد دخلت الثورة اجلزائرية �أربع مراحل حتى و�صلت �إىل التحرير:
ُ ّ
املرحلة الأوىل: وكانت عرب البداية التي قدمنا لها، تخللها عقد امل�ؤمتر
ّ
ُ َ
الأول جلبهة التحرير الوطني يف منت�صف عام 6591م، الذي عرف با�سم
(م�ؤمتر ال�صومام)، والذي عقد يف �إحدى وديان اجلزائر النائية، و�أ�سفر عن
ُِ َ
�إقرار امليثاق التاريخي للجبهة، و�إن�شاء املجل�س الوطني للثورة اجلزائرية، وجلنة
1 املو�سوعة ال�سيا�سية، د. عبد الوهاب الكيايل.
42. 24
التن�سيق والتنفيذ املكونة من خم�سة �أع�ضاء ميار�سون ال�سلطة التنفيذية للثورة.
وفيه مت تق�سيم اجلزائر �إىل خم�س مناطق ع�سكرية، تولىّ كل منطقة منها عقيد
َّ
يف اجلبهة، وقرر امل�ؤمتر ت�صعيد الكفاح امل�سلح. وقد �أ�صبح (02 �آب) بعد
اال�ستقالل: (اليوم الوطني للمجاهد).
َّ َ
املرحلة الثانية (6591 ـ 8591م): �شهدت هذه املرحلة ارتفاعا يف حدة
ً ِ ّ
الهجوم الفرن�سي امل�ضاد للثورة يف حماولة للق�ضاء عليها، �إال �أن الثورة ازدادت
ً
ا�شتعاال خالل هذه املدة، وبد�أت معركة اجلزائر العا�صمة، وا�ستمرت قرابة عام،
�أعلنت خاللها اجلبهة الإ�رضاب العام يف كافة �أنحاء اجلزائر ثمانية �أيام، كما ح�صل
َ َ ُ
خالل هذه الفرتة �أطول �إ�رضاب طالبي دعا �إليه االحتاد العام للطلبة امل�سلمني
ُ
اجلزائريِّني، وا�ستمر حتى اال�ستقالل. كما بنت احلكومة الفرن�سية خاللها خط
(مور�س) املكهرب بني اجلزائر وتون�س، وخط (�شال) بني اجلزائر واملغرب.
املرحلة الثالثة (8591 ـ 0691م): وهي من �أ�صعب املراحل التي مرت
َ
بها الثورة، �إذ نفَّذ اجلي�ش الفرن�سي عمليات ع�سكرية هجومية �رش�سة، مثل
(كودرن)، (�إيتان�سيل)، (الأحجار الكرمية)، كما �أُقيمت العديد من مع�سكرات
االعتقال يف اجلزائر.
ويف املقابل، اعتمد جي�ش التحرير فتح جبهات متعددة، وحاول قطع
َ
خطوط �إمداد اجلي�ش الفرن�سي، وقد �أعلن الثوار يف هذه املرحلة عن حكومة
م�ؤقتة برئا�سة (فرحات عبا�س).
كما �أعلن (ديغول) خالل ذلك عن اعرتاف فرن�سا بحق اجلزائر يف تقرير
م�صريها، وكان التفاو�ض وقتها يتم بني احلكومة الفرن�سية واحلكومة اجلزائرية
ُّ
امل�ؤقتة.
43. 34
َ َ ّ
املرحلة الرابعة (0691 ـ 2691م): وهي التي �شكلت املرحلة احلا�سمة
يف حرب التحرير وتقرير امل�صري، حيث حاولت فرن�سا خاللها ح�سم الأمور
ً َ
باحلل الع�سكري، �إال �أنها ف�شلت مرة تلو مرة، �إىل �أن و�صلت �إىل قناعة تامة
ب�أن التفاو�ض هو احلل الوحيد والكفيل ب�إنهاء ال�رصاع، ما �أجربها على الدخول
ً
يف مرحلة تفاو�ضية �ساخنة مع احلكومة امل�ؤقتة، طرحت خاللها حلوال م�ؤقتة
ً
وجزئية؛ حاولت من خاللها اقتطاع �أجزاء من اجلزائر، �أو �أن ت�أخذ حقوقا
وامتيازات ما، �إال �أن اجلبهة رف�ضت ذلك ب�شكل قاطع.
ّ
ويف تلك الأثناء، ت�شكلت �أول هيئة �أركان للجي�ش اجلزائري الذي بد�أ ي�أخذ
ال�شكل النظامي، و�أ�صبح العقيد (هواري بومدين) �أول رئي�س �أركان للجي�ش.
ً
وفعال، توقّف القتال يف 91/3/2691م. وكان الأول من متوز يوم ا�ستفتاء
َ
�شعبي، ف�صوت ال�شعب اجلزائري ل�صالح اال�ستقالل، وكان ان�سحاب اجلي�ش
ُّ ُ ّ َ
الفرن�سي يف 5/11/2691م، وهو ذات التاريخ الذي دخلت فيه فرن�سا اجلزائر
ً
قبل (031) عاما.
نعم! لقد خرج اجلي�ش الفرن�سي بعد �أنْ قدم ال�شعب اجلزائري قرابة 5.1
َّ َ
َّ َ
مليون �شهيد، وبعد �أن نظم ثورات عديدة �سبقت ثورة اال�ستقالل، وتعر�ض
ّ
ملجازر ب�شعة دموية، �أكرثها ب�شاعة وفظاعة كانت يف (8/5/5491م) �أثناء
ً ً
م�سرية �شعبية راف�ضة لال�ستعمار، قُتل فيها على يد اجلي�ش الفرن�سي �أكرث من 54
�ألف �شهيد يف يوم واحد، �إ�ضافة �إىل مئة جندي فرن�سي(1).
***
1 املو�سوعة ال�سيا�سية، د. عبد الوهاب الكيايل.
44. 44
�ساد�ساً: التجربة الفل�سطينية:
عقب انتهاء احلرب العاملية الأوىل وانت�صار احللفاء على دول املحور، مت
َّ
تق�سيم البالد العربية ح�سب اتفاق (�سايك�س بيكو)، فكانت فل�سطني من ن�صيب
بريطانيا، ودخلت حالة ا�ستعمار حتت م�سمى االنتداب.
�أح�س ال�شعب الفل�سطيني �أن املهاجرين اليهود بد�ؤوا م�رشوع ا�ستيالء على
َّ
ً
الأر�ض، خ�صو�صا بعد �صدور (وعد بلفور) امل�ش�ؤوم، الذي قدمت فيه بريطانيا
ّ
تعهداً ب�إقامة (وطن قومي) لليهود يف فل�سطني، فبد أ� ال�شعب عمليات احتجاج
ورف�ض للهجرة والوجود اليهودي يف فل�سطني، ومت تقدمي �شكوى للباب العايل
َّ
ثم �إىل املندوب ال�سامي، �إال �أن ذلك مل ي�ضع حداً للهجرة اليهودية �أو املمار�سات
اال�ستعمارية املتمثلة باغت�صاب الأر�ض وبناء امل�ستوطنات والإف�ساد والتحر�ش
بال�سكان.. لتبد�أ بعدها الهبات ال�شعبية العفوية، كثورة (النبي مو�سى)، و(ثورة
ّ
يافا) و(ثورة الرباق)، والتي جاءت بغالبها كردات فعل غري من�سقة على
ّ
املمار�سات الربيطانية واليهودية.
ّ
وقد تخلل ذلك ت�شكيل جمعيات �إ�سالمية وم�سيحية وطنية تهدف
�إىل اال�ستقالل، وطرد اال�ستعمار الربيطاين، ومواجهة الزحف اليهودي
(الكولونيايل).. وعقد خالل ذلك �سبعة م�ؤمترات وطنية و�إ�سالمية، دعت
ُ
ال�شعب �إىل عدم بيع �أي قطعة �أر�ض لليهود، ورف�ض (وعد بلفور)، كما دعت
َ
ال�شعب �إىل مواجهة االحتالل بكل ال�سبل، وت�شكلت �أحزاب فل�سطينية كحزب
(اال�ستقالل)، و(الدفاع الوطني)، و(م�ؤمتر ال�شباب)، و(حزب الإ�صالح)،
و(احلزب ال�شيوعي الفل�سطيني)، و(الإخوان امل�سلمون)، وغريهم...