SlideShare ist ein Scribd-Unternehmen logo
1 von 11
‫1‬


      ‫نشرت في عدد من المواقع أللكترونية‬                          ‫من التراث البغدادي ألصيل‬

                                                                   ‫البغداديون؛ كيف كانوا‬
                                                                    ‫)يستقبلون )آب ألل ّاب‬
                                                                       ‫ه‬

                                                                 ‫* الدكتور مجيــد القيسي‬

    ‫عرف البغادة حر الصيف او)الگيظ( ؛ كما كانوا يسمونه ؛ وخصوصا في شهر آب ؛‬
         ‫مثلما عرفه أجدادهم السومريون وألكديون قبل سبعة آلف عام ؛ فعانوا من حره‬
 ‫.وسمومه ومضايقاته الشئ الكثير؛ لذلك أسموه بلغتهم آنذاك: )إيزي أيتو( أي شهر النار‬
     ‫وقد ذكر البغداديون في وصفه عبارات كثيرة سارت مسرى ألمثال ؛ من ذلك: )أبْ‬
   ‫الل ّاب يحرگْ البسمارْ بالباب( و) آبْ نهاره ل ّاب وليله ج ّبْ( و)أول عشرة من آب‬
                               ‫ل‬              ‫ه‬                                         ‫ه‬
      ‫تفك من جهنم باب وثاني عشرة تقلل العناب وتكثر ألرطاب وثالث عشرة تفك من‬
  ‫الشتا باب(. وعلى الرغم من شدة حره وقسوة سمومه غير أن البغادة كثيرا ما كالوا له‬
                     ‫.)المديح نكاية بشهر )أيلول( إذ قالوا:)رحم ال أبْ...قتلنا أيلو ُ بح ّه‬
                      ‫ل ر‬
               ‫وكان كثير من البغادة يستقبلون سياط حره ولسعات سمومه بشئ من الراحة‬
      ‫والستئناس بالرغم من ساعات الضجر والمعاناة التي يشعرون بها بسبب شدة حره‬
‫ويومه الطويل نسبيا. ومن أوجه تلك الراحة انه كان يستدعي الکثير من المواقف المحببة‬
‫والمناسبات اللذيذة الطيبة كوجود فرص مواتية لتناول )الرگي( المبرد تحت ) ِ ّ المي(‬
        ‫حب‬
 ‫او ُغطس داخل )البير(. او رشف ماء )رگية مگية( ؛ وهي التي تحولت محتوياتها الى‬           ‫م‬
       ‫شبه سائل ذي طعم فيه بعض الحموضة. أو شرب ماء مبرد من )التُنگة( وقد تمت‬
                      ‫ـ‬
 ‫تغطية فوهتها بقطعة قماش )ململ( او بغطاء من الخوص. او تناول رشفات مباشرة من‬
   ‫)ال ّ ّ( او )ال ُ ّانة( او)ال ُ ّاگة( التي تقوم بجمع )مي الناگوطْ( وذلك بواسطة ِغرفة‬
          ‫م‬                                                      ‫بو‬         ‫حب‬       ‫حب‬
     ‫يسمونها ) ِنشل( او )جيريّة( ؛ او )بال ّربة( الفخار التي تسمى أحيانا )الك ّ ُزة( او‬
              ‫رو‬                                     ‫ش‬            ‫ـ‬              ‫م‬
      ‫ال ُوز(. أوألستمتاع بشرب )الشنينة( ؛ أو شرابت )النگوع( أو )الزبيب ألسود( او‬        ‫ك‬
        ‫)الرمان( أو)قمْر الدين( أو)تمر هند( التي إعتادت النسوة البغداديات على اعدادها‬
     ‫وألحتفاظ بها لساعات النهار أو الى حين عودة الرجال وألولد من )الشغل( مساء.‬
         ‫وكذلك أكل الفواكه والخضراوات الطرية الطازجة كالطماطة والبطيخ و)التُ ّي(‬
             ‫ـك‬
       ‫و)المشمش( و)الگوجة( و )ال ِنجاص او مل أحمد( المبردة. أوم ّ قطع من الثلج‬
                       ‫ص‬                                      ‫ع‬
                                               ‫.)لترطيب الشفتين وتبريد الفم الجاف )المفل ِم‬
                                                ‫ح‬
                 ‫وكثيرا ما تفتح أصوات الباعة الدوارين في )الط َف( شهية البغدادي على‬
                                           ‫ر‬
        ‫مصراعيها لشراء قطعة من )ال َلْ ُودة( ؛ وقبل ان تحصل على اسم )لكي سْ ِكْ(‬
            ‫ت‬                                            ‫ع ع‬
    ‫ألفرنجي. او ان يشتري )گلص بوز( او )دوندرمة( أو )گلصية( أو )أزبري( ؛ او‬
 ‫يحصل على صحن من )القيمقْ او القيمقْلي( اللذيذ المصنوع من الحليب الخالص المثلج‬
        ‫مع السكر وماء الورد الطبيعي. وكيف كان بعض الباعة يتفننون بصنعه وعرضه‬
‫2‬


  ‫بواسطة )العرباين( ألنيقة الصغيرة ؛ وخصوصا الباعة )اليهود( الذين كانوا يدورون‬
‫على زبائنهم آو معارفهم المفضلين من أصحاب الدكاكين في أسواق )الشورجة( و)قمبر‬




  ‫علي و)حنون الصغير( ؛ وفي )الخانات( الكبيرة لتصريف بضاعتهم. وكان )القيمقْلي(‬
               ‫.)يقدم في صحون خزفية صغيرة ؛ جميلة الشكل. كل ذلك كان يباع )بعانة‬
        ‫آما إذا ما وجد البغدادي نفسه خارج المنزل فقد يحظى بعدد من المتع التي تخفف‬
    ‫عنه وطأة الحر وهو يسير خلل )الطرقات( أو)الدرابين( ؛ فيمر بالقرب من بوابات‬
‫)الخانات( وألسواق و)القيصر ّات( المغطاة ؛ حيث تنسل منها نسمات باردة منعشة كما‬
                                                        ‫ي‬
  ‫تنسل )الصبايا( و)الحْديثات( من ألبواب ليل لملقات حبيب ما يزال ينتظر عند راس‬
  ‫)الدربونة( وهو يرتجف خوفا من أن ينكشف أمره. او ربما يمر بأحد الدور التى تضع‬
‫على أبوابها أو نوافذها )ع ّاريّة عاگول( تعلوها )ت ّكة( او )پيپ( او )طرمبة( لتزويدها‬
                                     ‫ن‬                   ‫م ـ‬
  ‫بالماء ، فتراه يتثاقل أو يتوقف قليل عند تلك المحلت لتنسم أكبر قدر من الهواء العليل‬
  ‫دون أن يعترضه او يسلب متعته المجانية )ناظر خان( او )صاحب دار( او )شرطي(.‬
     ‫وقد يخرج اليه من في الدار )بكاسة( أو )پرداغ( ماء مبرد او ) ِ َح( شربت طبيعي‬
                       ‫جد‬
   ‫لذيذ. فلغرابة في أن تسود تلك المشاعر ألنسانية بين الناس زمن الخير والبركة. فقد‬
 ‫وفر بعضهم الى البعض الخر سبل التراحم والمحبة وتقديم العون ؛ ولسان حالهم يقول‬
                           ‫.))الناس إل َعضها( و)شربة ميْ ل ِسكينْ تبعدك عن جهنمْ سنين‬
                                                    ‫م‬                   ‫ب‬
‫3‬


  ‫أما إذا ما داهمه العطش وهو بعيد عن المنزل ولم تكن لديه نقود ؛ فقد يجد ضالته في‬
   ‫)السبيل خانات( المنتشرة في بغداد ألمس لتقديم ماء الشرب المبرد للمواطنين ؛ وقد‬
 ‫تبرع بها الناس ألخيار كعمل من أعمال البر والخير وطلبا للنجاة في ألخرة. وليتذكر‬
‫الناس مأساة )المام الحسين( وهو يلقى ربه وأهله وهم بحسرة الى شربة ماء. وقد تكون‬
‫تلك )السبيل خانات( )حْ ُوب( او )تانك ّات( معدنية يتم تزويدها بالماء من قبل )السقاقي(‬
                                                ‫ي‬           ‫ب‬
 ‫أو بواسطة )بوريات مصلحة ألسالة(. كما يتم تبريد مائها بقوالب الثلج ؛ وذلك قبل أن‬
                                              ‫.تكون الثلجات الكهربائية قد عرفت بعد‬




 ‫والسير في )ألسواگة( و)الدرابين( و)ألطراف( أيام )الگيظ( يعد من متع البغدادي التي‬
  ‫يحرص عليها حرصا شديدا. فلم تکن مدينة بغداد )المركزية( في عشرينات وثلثينات‬
 ‫القرن المنصرم مدينة كبيرة. فهي تقع بين )الباب الشرجي( و)الباب المعظم(. ويقطعها‬
      ‫نهر دجلة من الوسط الى صوبي )الرصافة( و)الكرخ(. وتوجد معظم ألسواق في‬
       ‫صوب )الرصافة( مثل )سوگ الصياغ( و)سوگ الساعچية( و)سوگ الصفافير(‬
‫و)سوگ السراجين( و)سوگ السرای او الصراي( و)سوگ الهرج( و)سوگ القزازين(‬
     ‫و)سوگ الخفافين( و)سوگ الغزل( و)سوگ الدهانة( و)سوگ الشورجة( و)سوگ‬
        ‫حنون( و)سوگ قمبر علي(. وكذلك )الخانات( الكبرى مثل )خان جغان( و)خان‬
 ‫زرورْ(. فضل عن الدوائر الحكومية والكليات ودور المعلمين. أما خارج منطقة )الباب‬
‫4‬


    ‫الشرجي( فهناك مزارع )الكرادة( التي تنتشر فيها )الچ ُود( و)البكار( و)ألبار(.‬
                            ‫ر‬
    ‫فكانت حقول )الخضراوات( و)الخس( تمتد کالبساط ألخضر من )البتاويين( بعيدا‬
  ‫بإتجاه )العلوية( و)إرخيتة( و)أبو قلم( و)الزوية(. كما كانت تأتي مباشرة بعد منطقة‬
  ‫)باب المعظم( بساتين )العلوازية( و)الكسرة( العامرة بقصورها العالية ؛ حيث تشاهد‬
 ‫منها أنوار قبة ومنارة )ألمام ابي حنيفة النعمان( )رض( والمزينة بالقاشاني المخضر‬
‫الزاهي الجميل. أما مدينة ألمام )موسى الكاظم( )رض( فكانت تنفرد بموقع خاص يقع‬
    ‫قبالة مدينة )ألعظمية( من الضفة الثانية للنهر ؛ حيث تشاهد قباب ومنائر الضريح‬
                          ‫.المذهبة وهي تبرق في أشعة الشمس وكأنها قناديل متللئة‬




   ‫وجميع تلك ألسواق مسقوفة لحمايتها من ألمطار والرياح وأشعة الشمس ووهجها ؛‬
‫مما يخفف من قسوة الحر ويضعف من هبوب السموم أو)الل ِفْ( وبالتالي تسهيل مهمة‬
                          ‫ه‬
 ‫الشخص المتجول لتمام سياحته وتسوقه. فهو حين يتنقل بين محلت )الفضل( او )باب‬
‫الشيخ( أو )أبو شبل( وبين )سوك الصفافير( مثل ؛ فانه ل يتأثر بأشعة الشمس المباشرة‬
‫ول حتى بوهج السموم الشديد إل حين يقطع )الجادات( و)العگود( مثل )جادة خليل باشا‬
        ‫- شارع الرشيد( او )عگد الصخر- شارع ألمين( المكشوفة ولدقائق قليلة. فكان‬
 ‫المتسوق يستمتع بالتفرج على المحلت او الوقوف عند بعضها ألخر ؛ او السلم على‬
‫صديق قديم. فكانت الساعات الزمنية تختزل الى مشاهد مريحة للنفس وقد نسي البغدادي‬
‫5‬


         ‫حكاية )آب الل ّاب(. فعلى سبيل المثال كان المرء يومها ينطلق من منطقة )راسْ‬
                                                                          ‫ه‬
         ‫الگـ َ ّة( فيمر بجميع تلك ألسواق و)الخانات( ليصل في ألنهاية إلى منطقة )باب‬
                                                                                  ‫ري‬
                                         ‫.المعظم( دون أن يشعر بحر قاس او بتعب شديد‬
    ‫ول بد للبغدادي ؛ وهو يتجول لساعات طويلة ؛ من إن يأخذ قسطا من الراحة وليطفئ‬
   ‫ظمأه وذلك بزيارته إحدى )الگهاوي( الشهيرة ؛ ومعظمها تقع في القطاع الذي يتجول‬
         ‫هو فيه ؛ ومنها: )المصبغة( و)الخفافين( و)المميز( و)الشابندر( و)خليل القيسي(‬
  ‫و)عارف( و)حسن عجمي( و)الزهاوي( و)البلدية( وغيرها. فيدلف الى إحداها ليشرب‬
   ‫)إستكان چاي( او )چاي حامض( وليرشف )فنجان گهوة( ويدخن )راس ِ ِن هندي او‬
               ‫تت‬
   ‫شيرازي( لتعديل مزاجه. وقد يود ألستمتاع بصوت الفنان الکبير )محمد الگبنچي( او‬
             ‫الفنانة القديرة )سليمة باشا( من )الفونوغراف(. وقد يحمسه صوت المذيع من‬
      ‫)الراديون( فينادي )بايع الجرايد( ليطلع على أخبار البلد والعالم ؛ ولينقده )عانة( او‬
                                                               ‫.)خمسة فلوس( لقاء ذلك‬
       ‫وبالرغم من وقوع )الگهاوي( على مسافات متقاربة غير أن المرء يمكنه الحصول‬
      ‫على مشروبات مبردة في كل مكان. من ذلك مثل )پرداغ شربت زبيب( طبيعي من‬
‫محل الحاج )زبالة( الشهير والقريب من )جامع الحيدرخانة(. وقد يشتهي معه قطعة جبن‬
       ‫و)صمونة( لسناد معدته كما يقولون. وهناك كذلك )شربت ِرْگْ السوس( و)لِ َن‬
         ‫ـب‬                 ‫ع‬
 ‫ِنينة(. على أن ل ننسى )شربت َي الورد( المنتشر في تلك السواق وألذي يعد من ألذ‬
                                                       ‫م‬                              ‫ش‬
      ‫الشرابت وأكثرها نقاء وصحة. فهو ليحتوي على أية مواد مضافة ضارة بالصحة.‬
     ‫فخلطته ماء قراح قد أضيف اليه قليل من السكر )القند( و)مي زهر( ؛ أي ماء الورد‬
  ‫الطبيعي وقطع من الثلج. فلو نظر المرء الى البائع وهو يحمل ) جردل( مليئا بالشربت‬
    ‫وقد ُل ّ بالخزف ألبيض مثل ذلك الذي نشاهده في المؤسسات الصحية لظنه موظفا‬     ‫طي‬
      ‫صحيا... لبائع شربت !. لقد كان الناس يومئذ جميلي المظهر ومخلصين في عملهم‬
                                                                      ‫.ويخشون ال كثيرا‬
    ‫والمألوف أن كثيرا من البغادة كانوا يتحينون فرصة الخروج من المنزل وألذهاب الى‬
  ‫ألسواق لشراء بطل )نامْليتْ( والتلذذ بطعمه الطيب وألنتعاش بمذاق )الصودا( اللذع‬
‫المحبب. وخصوصا بعد أكلة بغدادية دسمة. و)النامليتْ( مر ِب دخل العراق في بدايات‬
                            ‫ط‬
   ‫القرن الماضي. وقد لقى قبول حسنا من البغادة بعامة والعوائل الموسرة بخاصة. فهو‬
 ‫مشروب طبيعي وصحي لخلوه من أية مادة إضافية ومكيفة قد تضر بالنسان. وقد نذكر‬
  ‫هنا على سبيل المقارنة مشروب )الكول( الذي دخل البلد في بدايات ألربعينات فهاجمه‬
   ‫بعض المختصين وأنتقد محتوياته الكيميائية ؛ وهي خلصة )الكوكا( المكيفة والكافيين‬
                                                 ‫.وحامض الفسفور والغليسرين وغيرها‬
        ‫وكان البغدادي شديد العجاب ب ُطل )النامليتْ( الذي يزهو بألوانه الجميلة وبهيئته‬
                                                         ‫ب‬
            ‫ألنيقة الغريبة ؛ وقد تخصر من أعلى وسطه وكأنه جسد غانية إتصف يالجمال‬
     ‫وبالرشاقة )أنظر في الشكل السابق(. أما فوهته فيتم إغلقها بواسطة )ال ّعْ ُلة(. وهي‬
               ‫د ب‬
 ‫كرة زجاجية محكمة الصنع وظيفتها منع إنسكاب السائل أوتسرب غاز الصودا. ويصنع‬
‫6‬


     ‫)النامليتْ( لعموم الناس من محلول السكر المضافة اليه المنكهات وأللوان الصحية.‬
  ‫ومن ثم يشحن بغاز )ثنائي أكسيد الكربون( لعطائه مذاق )الصودا( اللذع. وقد يكون‬
                                ‫.)إسم )النامليتْ( قد صحفه الناس وقلبوه عن لفظة )ليموناتا‬
           ‫أما ألسر المقتدرة فهي لها خلطتها الخاصة التي تعدها في المنزل ؛ ويسمونها‬
    ‫)الشربت( ؛ حيث يجري تحضيرها من )عصير الليمون( او )الرمان( اوغيرهما. او‬
      ‫يحضرونه من محلول )الليمون دوزي( و)السكر( و)لون غذائي( بنكهة معينة. وقد‬
‫يضاف إليها أحيانا )ماء الورد( او )البنفشة(. وبعد ذلك يؤخذ الى معمل التعبئة الصغير.‬
‫وهناك تتم تعبئته بالقناني الخاصة ذات الكرة الزجاجية وإعادته الى أصحاب )الشربت(.‬
     ‫وتعبئة هذا النوع من القناني التي إختفت من حياتنا ولم يعد يتذكر طيفها سوى بعض‬
     ‫الشيوخ ؛ ليخلو من إثارة تقنية جميلة. فبعد أن يبدأ العامل بإدخال أنبوب أللة ليمل‬
    ‫القنينة )بالشربت( يقوم بفتح صنبور )الغاز( المرافق وبالسرعة المطلوبة. فيأخذ تيار‬
       ‫)الغاز( القوي الخارج من )البطل( برفع )الدعبلة( من منطقة التخصر نحو الفوهة‬
   ‫بسرعة لتتسمر في الفتحة من الداخل ؛ فتؤدي إلى غلقها ؛ حيث يسمع لها نقر واضح.‬
 ‫أما إذا أريد فتح )البطل( لشرب محتوياته فما على المرء سوى إستعمال قطعة خشب او‬
  ‫) ُودة( لغرض دفع )الدعبلة( نحو ألسفل. وقد أوتي بعض الشبان من قوة الصابع ما‬            ‫ع‬
  ‫يساعدهم على دفع )الدعبلة( ؛ وسط صيحات العجاب من الحاضرين. )أنظر مليا في‬
      ‫الرسم أعله(. والملفت للنظر أن هذا النوع من القناني صحي وأمين لن السائل لن‬
                                                            ‫.يلمس سوى الزجاج ؛ حسب‬
            ‫أما في المنزل ؛ فقد إعتاد البغدادي على القيام بالعديد من الجراآت الضروية‬
    ‫للتخفيف من وطأة )آب الل ّاب(. وقبل ألشارة إلى تلك الجراآت ينبغي أن نؤكد على‬
                                                                 ‫ه‬
      ‫حقائق علمية وتقنية تعلمها ألنسان العراقي من تأريخه الناصع الطويل الذي لزمه‬
     ‫ملزمة الظل للشاخص. وأول تلك الحقائق أنه كيّف نشاطه اليومي ليتواءم مع بيئتة‬
                                          ‫ـ‬
‫الحياتية ومع الطقس بفصوله المتقلبة ؛ وبخاصة في موسم الحر الشديد ؛ أي خلل أشهر‬
       ‫حزيران وتموز وآب ؛ وفي موسم البرد القارس وخصوصا في )ال ِرْبعان ّة( وبرد‬
               ‫ي‬      ‫م‬
       ‫)العجوز(. هذا فضل عن ألمطار والعواصف الترابية )ال ُبرة( التي يتضايق منها‬
                                ‫غ‬
    ‫البغادة وخصوصا من كان يشكو من )تنگ نفس( ؛ بل ويتشاءم منها البعض ألخر.‬
      ‫لذلك نراهم يعتلون المنابر والمنائر للدعاء قائلين: ) ياقريبْ الفرج ْعالي َل ّا درج ؛‬
              ‫بي‬
  ‫عبدكْ بشدة ويطلبْ ِنكْ الف َجْ ...ياربْ( كما تسمع النسوة العجائز وهن يولولن: ) بعد‬
                                                               ‫ر‬        ‫م‬
                               ‫.شي يس ّي بينا رب العباد ....هذا كله من أفعالنا الشاينة( !؟‬
                                                                                  ‫و‬
        ‫وكثيرا ما يواجه البغادة اياما عصيبة في موسم )الگيظ( وأيام )الوغرة( ؛ وأخص‬
 ‫بالذكر )الع ّالة( و)الصنايعچية( الذين يعملون في مهن شاقة )كالحداحدة( و)التكمچية -‬
                                                                                ‫م‬
         ‫السباكين( )والك ّازة( الذين يقفون وجها لوجه أمام )ال ُورة(. وكذلك )المكينچية(‬
                                     ‫ك‬                                     ‫و‬
‫وأمثالهم. وقد تتضاعف المعاناة في شهر الصيام ؛ فتجد العمال وهم يقذفون بأنفسهم وهم‬
 ‫.)بملبسهم ؛ تحت )طرمبة المي( او أقرب )ساگية( او يدلقون فوق رؤسهم )پياپة المي‬
‫7‬


         ‫ولطالما إنحصر حديثنا في موسم الحر؛ وخصوصا في )شهر آب( فسوف نشير‬
        ‫وبعبارات قليلة الى خبرة البغدادي الواسعة وباعه الطويل في بناء مدنه وطرقاته‬
  ‫ومساكنه وإعداد مستلزماتها ؛ مثلما إختار طعامه وشرابه ولباسه ودواءه. فهو قد جعل‬
  ‫مساكنه متجاورة ومتراصة ؛ وطرقاته أقرب ما تكون إلى ألزقة الضيقة المعقودة هنا‬
       ‫وهناك للتقليل من آثار أشعة الشمس ووهجها ؛ وللتخفيف من رياح السموم صيفا‬
   ‫والرياح الباردة شتاء. وإذا كان لمساكن البغادة الخاصة بالوجهاء مواصفات معمارية‬
   ‫شبه معيارية ؛ وقد ترسخت طوال السنين ؛ فأن تصاميم دور العامة من الناس جاءت‬
                                   ‫.بسيطة وعفوية مع إحتفاظها بالشروط البيئية العامة‬
    ‫وتتكون دور الموسرين من )حوش( او )صحن( أي فناء في الوسط. وغالبا ما يكون‬
 ‫فيه )شذروان( او نافورة. ويحيط )بالحوش( )الطرار( آی الممر و)ألليوان( او االطرمة‬
     ‫المعدة لجلوس السرة والتي يتم رفعها على )الدلگات( الجميلة. ثم تأتي )الغرف او‬
    ‫الحلوگ(. وبعد مدخل الدار يأتي مباشرة )ال ِجاز( وإلى يمينه )الديوه خانة( ؛ وليس‬
                                          ‫م‬
    ‫بعيدا عنها )الحرم(. ثم تأتي المرافق المساعدة مثل )ال ّرداب( و)البادگير( و)ال ِلر(‬
       ‫ك‬                       ‫س‬
      ‫وغرفة )الخدم( و)المطبخ او الموگد( و)الحمام( و)الخلخانة - المرحاض(. ثم يليه‬
‫الطابق الثاني وفيه بقية الغرف )بشناشيلها( المتعالية البديعة. وقد نجد بين الطابقين غرفة‬
‫8‬


          ‫ألرسي( او الشرفة. و ُحمل الشناشيل فوق الجدران بواسطة أعمدة أفقية تسمى(‬
                                                                    ‫ت‬
‫)ال َ َص ُنات(. وعادة ما تبنى مثل تلك الدور الفخمة ) بالطابوگ ألصفر المگصوص(‬    ‫جر و‬
     ‫أو )بالطابوگ السميچي( المفخور بدرجات حرارة متفاوتة. وتأتي بعد عملية رصف‬
       ‫ألجر خطوة )ال ّ ِزْ( العادي. أما إذا طلب صاحب البناء طراز )الچفْ ِيم( الجميل‬
                  ‫ق‬                                                    ‫در‬
‫فينبغي عمله أثناء رصف )الطابوگ( بإستعمال )مسطرة( خاصة )أنظر في الشكل جمال‬
         ‫الجف قيم(. أما السقوف فتنجز )بالعْگادة( و)الط ُگ( أي ألقواس المعروفة. وقد‬
                                         ‫و‬
    ‫أستعملوا كذلك )الطابوگ الفرشي( لرصف ألرضيات والسطوح. واستعملو بعد ذلك‬
   ‫)الطابوگ السودائي( المصنوع من مزج )الجير الحي أو النورة( مع )الرمل ألسود(.‬
      ‫كما إستعملوا في البناء )ال ُونة( بأنواعها كحشوة مناسبة بين ) ُوف( ألجر ؛ وهي‬
                         ‫س‬                                      ‫م‬
    ‫)ال ُ ّ( و)النورة( التي هي مزيج من )الجير الحي( و)رماد الحمامات(. وتتميز هذا‬ ‫جص‬
 ‫الحشوة بالقوة وبالمتانة مع مرور الزمن ؛ حيث تتحول الى مادة ذات خصائص إسمنتية‬
       ‫متصلبة. أما في إكساء الجدران من الداخل أو من الخارج فعادة ما كانوا يستعملون‬
  ‫الجص المعروف بطريقة )البياض( الصقيل او )الل ُخ( او )ال َِج( او )الن ِر(. ولبد من‬
                 ‫ث‬         ‫مل‬        ‫ب‬
     ‫التنويه بأن كافة مواد البناء التي سبق ذكرها تمتاز بالعزل الجيد للحرارة ؛ وقد تعزز‬
                                             ‫.دورها عبر التأريخ الطويل للعمارة البغدادية‬
         ‫وقد أدخلت أعمدة )حديد الشيلمان( مؤخرا في عمليات )العگادة(. أما في التغليف‬
 ‫فأستعملوا صفائح )الخشب المعاكس( و)ألسبست( الضار بالصحة. كما إستعانوا أخيرا‬
  ‫)بصفائح )الچنكو( و)حديد التسليح( و)الخرسانة( مما أخل بمواصفات العزل الحراري‬
           ‫للبناء. تلك المواصفة التي لم يولها المسؤلون ألهتمام اللزم بالرغم من أهميتها‬
     ‫القصوى. أما الجانب المعماري أو الفني فقد أوله البغدادي ألصيل عناية خاصة منذ‬
‫آلف السنين وحتى القرن ألخير ؛ حيث بدأ فيه تآكل وتشوه )العمارة البغدادية( ألصيلة‬
‫من حيث الشكل والريازة والوظيفة والمواصفات ؛ حتى فقدت هويتها التأريخية المعهودة‬
    ‫؛ بعكس ما نراه اليوم في )الشام( وفي )مصر( وفي بلدان )المغرب العربي( مثل. بل‬
      ‫وقد أدهشنا أن نجد بعض القطار ألوربية مثل )إسبانيا( ما تزال تبذل جهودا كبيرة‬
      ‫للحفاظ على التراث المعماري العربي- السلمي العريق. وبالنظر لسعة الموضوع‬
       ‫فليس بالمكان شرحه بالتفصيل في هذه العجالة نظرا لضيق الوقت على الرغم من‬
                                                       ‫.أهميته وطرافته وعشق البغدادي له‬
       ‫أما مساكن البسطاء من البغادة والتي تشكل الغالبية العظمى فتبنى )ب ِ ِرْ الطابوك(‬
                    ‫كس‬
    ‫أو)ألشگنگ( وحتى )الل ِن(. وقليل ما يستعمل فيها ألجر الصحيح لرتفاع ثمنه. أما‬
                                                                  ‫ب‬
      ‫ال ُونة فهي نفس المونة المعروفة. وقد تترك الجدران بدون إكساء او يتم )ملجها( او‬ ‫م‬
      ‫)درزها( بإستعمال )الجص(. أما الجدران فتكون عريضة بسبب وجود )التربيع( او‬
         ‫الحشو بين الجدارين للتقوية وللعزل الحراري الجيد. لكن مثل تلك الحيطان تكون‬
        ‫عرضة إلى )التدو ِلْ( أي أنها ) تنطي بطن( كما يقولون وذلك بمرور الوقت. وقد‬
                                                                       ‫ب‬
        ‫تتعرض إلى ألنهيار فجأة. وكثيرا ما كان البغادة يتندرون حين يشاهدون )توزيرة‬
        ‫منتفخة( بأنها )مْر ّة حبلى بشهرها !(. اما السقوف فتكون عادة من خشب )الق َغ(‬
            ‫و‬                                                          ‫ي‬
‫9‬


 ‫اوجذوع النخيل او ألشجار ألخرى. ومن )الحصران( و)الگصب(. ثم يجري )رشگ(‬
 ‫السطح )بالطين( المخمر مع )ال ِ ِن(. وكثيرا ما يطلب البغدادي فتح ) ِماية( او ُ ّة في‬
       ‫كو‬          ‫س‬                                       ‫تب‬
                                                                     ‫.سقف الدار للضاءة‬
      ‫ويحاول البغدادي المقتدر توفير مستلزمات التبريد في مسكنه وإعداد طعامه وملبسه‬
   ‫بكل حرص. وأولها بناء ) ِرداب( و)بادگير(. ومن لم يسمع بإسم )البادگير( نقول بآنه‬
                                                               ‫س‬
   ‫)قناة( في الجدار تمتد من قاع )السرداب( وتنتهي عند ستارة الطابق الثاني. وله وظيفة‬
    ‫مدهشة حيث يقوم بتحريك تيار الهواء المبرد في الدار وجذبه نحو الفتحة ومن ثم نحو‬
   ‫السطح على وفق قاعدة )الحمل( الفيزيائية. وكثيرا ما إختصم ألبناء حول من ينام عند‬
     ‫الفوهة. ول يحسم ألشكالية إل مجئ )ألب( !. وكخطوة رئيسة ينبغي وضع الستائر‬
 ‫الخشبية )الپنجور او البنجرة( او )الپردات( على الشبابيك لحجب اشعة الشمس. ووضع‬
       ‫)ال َ ّار ّات( المصنوعة من )العاگ ُل( و) ِريد النخيل( عند ألبواب والنوافذ. ولقد‬
                                                ‫ج‬       ‫و‬                         ‫عم ي‬
‫جاءتنا بعد ذلك وسائل التهوية والتبريد الحديثة مثل )الپنكات( و)مبردات الهواء( وأخيرا‬
‫)مكيفات الهواء( التي جلبت معها ألعطال والمصاريف الباهضة والهموم الثقيلة التي ل‬
          ‫نهاية لها. أما على المستوى الشخصي فقد إلتجأ البغدادي الى )المهافيف( اليدوية‬
     ‫المنقوعة بالماء ؛ وكذلك )المهفات السقفية المتأرجحة(. كما أولى عناية شديدة بشرب‬
   ‫الماء المبرد وإستهلك كميات من الثلج. وإستعمل لهذه ألغراض )ال ِ ّ( الفخار الذي‬
                  ‫حب‬
     ‫ُجِسونه على )ال ّكمْلي( الخشب ويغطونه بصينية او بغطاء من الخشب او بواسطة‬
                                                                        ‫س‬              ‫ي ل‬
 ‫)الچرچف(. وبالنظر لخاصية )ال ِب( المسامية فنجد الماء يتبخر من سطحه فيؤدي الى‬
                                                         ‫ح‬
   ‫تبريده. كما أن الماء الناضح )ألناگوط( فيتجمع في وعاء صغير يوضع في السفل منه‬
  ‫ويسمونه )البواگة(. ويكون ماؤها مبردا لذيذا. أما شرب الماء فيتم بواسطة )ال َنشل( او‬
           ‫م‬
    ‫)ال ِيرية(. وهي ) ِغرفة( مخروطية الشكل تصنع من القش او العيدان وتطلى بالقار.‬
                                                                       ‫م‬              ‫ج‬
        ‫ويكون الشرب بها لذيذا ومنعشا. وأحيانا يستعمل )الك ّوزْ( لغراض الشرب وهو‬
                                    ‫ر‬
          ‫)الك ُز( الفخار. ولجميع تلك الدوات نكهة خاصة محببة ومذاق فريد حين تحتك‬     ‫و‬
     ‫بألسنان ويلمسها اللسان والشفتان. وقد يشاهد البغدادي )ال َلگ( وهو يسبح في ماء‬
                              ‫ع‬
    ‫)ال ّب(. وهو في ألصل )يرقات( البعوض او سواه. ووجود )ال َلق( أمر مألوف بين‬
                         ‫ع‬                                                            ‫ح‬
  ‫البغادة. وقد ينفر من شكله الطفل )المكتبلي( الذي علموه مضاره في )المكتب( ؛ فتنهره‬
                                      ‫.)ألم قائلة: )إبني گ ّه و ِزقنبْ....ما شايفْ َلگ !؟‬
                                             ‫ع‬                  ‫ش ت‬
     ‫وهناك أيضا )ال ُ ّانة( وهي وعاء من الفخار أصغر من )ال ِ ّ(. وكذلك )ال ُنگة( او‬
             ‫ت‬              ‫حب‬                                           ‫حب‬
 ‫ال ُلة. وهي على أنواع ؛ لعل اشهرها )الخضراوية(. و)التنگة( هي رفيقة البغدادي أينما‬       ‫ق‬
  ‫تنقل داخل المنزل. فحين يصعد الى السطح لغرض النوم أثناء موسم الصيف تسبقه اليه‬
‫لتستقر على زاوية )المحجر( او فوق )التيغة(. وهي )ال ّتارة( التي تحيط بسطح البيت ؛‬
                                  ‫س‬
    ‫لتكون الى جوار أصحابها: )شياف الرگي( و) ِدر البامية البايتة( ذات الطعم المتخمر‬
                                            ‫ج‬
          ‫.! اللذيذ والتي كثيرا ما كانت مدعاة للتنافس او المعابثة بين أفراد العائلة الواحدة‬
    ‫ولقد بينا سابقا شدة إهتمام إبن بغداد بمأكله ومشربه وملبسه أيام الحر الشديد. فبالنسبة‬
    ‫للملبس فنجد الرجل يفضل القمشة المسامية الرقيقة. وقد يفضل بعضهم العكس. ومن‬
‫01‬


     ‫بين ألبسته )دشداشة الخام ألبيض( و)الصاية الپوپلين( و)العباية( الرقيقة. ويلبس في‬
    ‫ألرأس )العرچين( و)اليشماغ( و)الغترة( و)الكشيدة( و)العگال العادي او المگصب او‬
‫المكنكر( و)السدارة الفيصلية( السوداء او )السكوچية( الملونة. أما النسوة فيفضلن أقمشة‬
       ‫)الجرجيت( و)الحراير( و)الستن( و)الململ(. وفی الرآس )الچرغد( او )الکيش( او‬
                                                                    ‫.))العصابة( آو)الفوطة‬
            ‫أما فيما يتعلق بالمشربات فقد أولى البغدادي عناية فائقة بالعصائر و)بالشرابت(‬
      ‫الطبيعية الصحية للتعويض عن السوائل المفقودة بالتبخر حيث أشرنا الى عدد منها ؛‬
    ‫أبرزها )شربت النگوع( ؛ وهو )المشمش المجفف( ألذي يعد ارخصها وألذها. وكذلك‬
       ‫)شربت الزبيب( السود الشائع بين الناس والذي يصفونه للتلميذ أيام المتحان بأنه‬
   ‫)أكسير( للذكاء ! لنه )يشرح الصدر( و)يْصفي المخ( ؛ حتى قالوا فيه قولتهم الشائعة:‬
     ‫)شربتْ زبيبْ... والين ِبْ أل ما ي ِيبْ(. ولهذا السبب بالذات كنا نحن طلبة )المدرسة‬
                                                         ‫خ‬           ‫د‬
    ‫ألعدادية المركزية( من الملزمين لمحل الحاج )زبالة أبو الشربت(. وكان هو يعرف‬
     ‫هذه )السالفة( ألعلمية التي لتخلو من صدق. فقد كان يلبي طلبات التلميذ فيزودهم‬
   ‫)بگلص شربت براسه( أي )ما مْكا َرْ(. والمشهور عن الزبيب أنه من المواد الغذائية‬
                                                      ‫س‬
         ‫المركزة والغنية بالسكر ألحادي وبالمعادن وبالحماض العضوية الطاردة لسموم‬
                                              ‫.البدان ؛ فضل عن نكهته الطيبة التى لتقاوم‬
    ‫وفي أيام طفولتنا شاعت بين ألسر الغنية والفقيرة على حد سواء صناعة )الدوندرمة(‬
   ‫او )البوز( في المنازل كسلح ماض للوقوف بوجه )آب الل ّاب(. وكانت تستعمل لذلك‬
                                ‫ه‬
‫الغرض آلة صغيرة تسمى )ال ِلبة(. وهي وعاء معدني دوار توضع فيه )خلطة الشربت(‬
                                                             ‫ع‬
        ‫المكونة من خلصة )ألزبري( ألحمر او )روح البرتقال( المصنعة والمضافة إلى‬
        ‫محلول السكر. ثم يوضع الوعاء الدوار داخل إسطوانة أو وعاء آخر أكبر منه قليل‬
 ‫يحتوي على قطع الثلج مع كمية كافية من مسحوق ملح الطعام )أنظر في الشكل(. وبينما‬
    ‫يأخذ ألبناء بتدوير وعاء الشربت تأخذ محتوياته بالتجمد لتتحول الى )دوندرمة( لذيذة‬
     ‫ومنعشة ورخيصة الثمن. ويكاد اليوم الذي تنوي فيه ألسرة عمل )الدوندرمة( يتحول‬
‫إلى إحتفالية صغيرة حيث ينافس الكبار الصغار في إلمساك بعتلة )العلبة( لتدويرها وهم‬
  ‫ينتظرون بفارغ الصبر إستكمال تجمد الشربت ليهنأوا بأكلة فريدة ل تأتي إل كل صيف‬
        ‫لتخفف عنهم شرور )آب الل ّاب( الذي ليرحم. ومن أطرف ما يحصل هنا هو قيام‬
                                                               ‫ه‬
   ‫ألطفال بتحين الفرصة وإستغفال )ألم( ليأكلوا بأصابعهم شيئا من )الدوندرمة( قبل أن‬
                                           ‫.تجهز بحجة تذوقها. وهذا هو شأن ألطفال دائما‬
          ‫وها نحن نصل إلى نهاية هذه السياحة اللطيفة الشائقة التي دعانا إليها )إبن بغداد(‬
    ‫الصابر ألبي الذي حفظ لنا تأريخ حاضرته العريقة ورعى تقاليدها الجميلة ؛ لنرافقه‬
    ‫في تجواله ولنسير معا في طرقاتها ومشاهدة أسواقها وخاناتها العامرة ؛ وقد إحتضنها‬
  ‫حر )آب الل ّاب( و َ ُومه و)لهفه( المحبب. ونامل أن تكون هذه التذ ِرة الخاطفة تحية‬
                    ‫ك‬                                                 ‫سم‬      ‫ه‬
           ‫خالصة له لنبقى ؛ نحن الضاربين في بقاع ألرض؛ خالدين في ذاكرته ووجدانه‬
                                                                               ‫.وتأريخه‬
‫11‬


  ‫أكاديمي مغترب من العراق *‬

‫‪majidkayssi@yahoo.com‬‬

Weitere ähnliche Inhalte

Mehr von Ammar Wahbi

فيضان بغداد 1954
فيضان بغداد  1954فيضان بغداد  1954
فيضان بغداد 1954Ammar Wahbi
 
كتاب منال العالم[2]
كتاب منال العالم[2]كتاب منال العالم[2]
كتاب منال العالم[2]Ammar Wahbi
 
نوري باشا السعيد
نوري باشا السعيدنوري باشا السعيد
نوري باشا السعيدAmmar Wahbi
 
تاريخ مسيرة كلية الطب العراقية
تاريخ مسيرة كلية الطب العراقيةتاريخ مسيرة كلية الطب العراقية
تاريخ مسيرة كلية الطب العراقيةAmmar Wahbi
 
أمثال عراقية
أمثال عراقيةأمثال عراقية
أمثال عراقيةAmmar Wahbi
 
Graduation booklet 1954 (My Dad)
Graduation booklet 1954 (My Dad)Graduation booklet 1954 (My Dad)
Graduation booklet 1954 (My Dad)Ammar Wahbi
 
أمثال عراقية
أمثال عراقيةأمثال عراقية
أمثال عراقيةAmmar Wahbi
 
مدرسـة مدام عـادل الأهليـة ـ اليوبيل الفضي
مدرسـة مدام عـادل الأهليـة ـ اليوبيل الفضيمدرسـة مدام عـادل الأهليـة ـ اليوبيل الفضي
مدرسـة مدام عـادل الأهليـة ـ اليوبيل الفضيAmmar Wahbi
 
الحج قبل مائـــة عام
الحج قبل مائـــة عامالحج قبل مائـــة عام
الحج قبل مائـــة عامAmmar Wahbi
 
كل+عام+وا..
كل+عام+وا..كل+عام+وا..
كل+عام+وا..Ammar Wahbi
 
King faisal II Pictures
King faisal II PicturesKing faisal II Pictures
King faisal II PicturesAmmar Wahbi
 
Old Movies Stars
Old Movies StarsOld Movies Stars
Old Movies StarsAmmar Wahbi
 
القراءة+ا..
القراءة+ا..القراءة+ا..
القراءة+ا..Ammar Wahbi
 

Mehr von Ammar Wahbi (18)

فيضان بغداد 1954
فيضان بغداد  1954فيضان بغداد  1954
فيضان بغداد 1954
 
كتاب منال العالم[2]
كتاب منال العالم[2]كتاب منال العالم[2]
كتاب منال العالم[2]
 
نوري باشا السعيد
نوري باشا السعيدنوري باشا السعيد
نوري باشا السعيد
 
Corrupt
CorruptCorrupt
Corrupt
 
تاريخ مسيرة كلية الطب العراقية
تاريخ مسيرة كلية الطب العراقيةتاريخ مسيرة كلية الطب العراقية
تاريخ مسيرة كلية الطب العراقية
 
أمثال عراقية
أمثال عراقيةأمثال عراقية
أمثال عراقية
 
Graduation booklet 1954 (My Dad)
Graduation booklet 1954 (My Dad)Graduation booklet 1954 (My Dad)
Graduation booklet 1954 (My Dad)
 
أمثال عراقية
أمثال عراقيةأمثال عراقية
أمثال عراقية
 
مدرسـة مدام عـادل الأهليـة ـ اليوبيل الفضي
مدرسـة مدام عـادل الأهليـة ـ اليوبيل الفضيمدرسـة مدام عـادل الأهليـة ـ اليوبيل الفضي
مدرسـة مدام عـادل الأهليـة ـ اليوبيل الفضي
 
الحج قبل مائـــة عام
الحج قبل مائـــة عامالحج قبل مائـــة عام
الحج قبل مائـــة عام
 
Nostalji
NostaljiNostalji
Nostalji
 
Baghdadi musuem
Baghdadi musuemBaghdadi musuem
Baghdadi musuem
 
Ghazi Al Rassam
Ghazi Al RassamGhazi Al Rassam
Ghazi Al Rassam
 
كل+عام+وا..
كل+عام+وا..كل+عام+وا..
كل+عام+وا..
 
King faisal II Pictures
King faisal II PicturesKing faisal II Pictures
King faisal II Pictures
 
Old Movies Stars
Old Movies StarsOld Movies Stars
Old Movies Stars
 
U.O.T
U.O.TU.O.T
U.O.T
 
القراءة+ا..
القراءة+ا..القراءة+ا..
القراءة+ا..
 

البغداديو..

  • 1. ‫1‬ ‫نشرت في عدد من المواقع أللكترونية‬ ‫من التراث البغدادي ألصيل‬ ‫البغداديون؛ كيف كانوا‬ ‫)يستقبلون )آب ألل ّاب‬ ‫ه‬ ‫* الدكتور مجيــد القيسي‬ ‫عرف البغادة حر الصيف او)الگيظ( ؛ كما كانوا يسمونه ؛ وخصوصا في شهر آب ؛‬ ‫مثلما عرفه أجدادهم السومريون وألكديون قبل سبعة آلف عام ؛ فعانوا من حره‬ ‫.وسمومه ومضايقاته الشئ الكثير؛ لذلك أسموه بلغتهم آنذاك: )إيزي أيتو( أي شهر النار‬ ‫وقد ذكر البغداديون في وصفه عبارات كثيرة سارت مسرى ألمثال ؛ من ذلك: )أبْ‬ ‫الل ّاب يحرگْ البسمارْ بالباب( و) آبْ نهاره ل ّاب وليله ج ّبْ( و)أول عشرة من آب‬ ‫ل‬ ‫ه‬ ‫ه‬ ‫تفك من جهنم باب وثاني عشرة تقلل العناب وتكثر ألرطاب وثالث عشرة تفك من‬ ‫الشتا باب(. وعلى الرغم من شدة حره وقسوة سمومه غير أن البغادة كثيرا ما كالوا له‬ ‫.)المديح نكاية بشهر )أيلول( إذ قالوا:)رحم ال أبْ...قتلنا أيلو ُ بح ّه‬ ‫ل ر‬ ‫وكان كثير من البغادة يستقبلون سياط حره ولسعات سمومه بشئ من الراحة‬ ‫والستئناس بالرغم من ساعات الضجر والمعاناة التي يشعرون بها بسبب شدة حره‬ ‫ويومه الطويل نسبيا. ومن أوجه تلك الراحة انه كان يستدعي الکثير من المواقف المحببة‬ ‫والمناسبات اللذيذة الطيبة كوجود فرص مواتية لتناول )الرگي( المبرد تحت ) ِ ّ المي(‬ ‫حب‬ ‫او ُغطس داخل )البير(. او رشف ماء )رگية مگية( ؛ وهي التي تحولت محتوياتها الى‬ ‫م‬ ‫شبه سائل ذي طعم فيه بعض الحموضة. أو شرب ماء مبرد من )التُنگة( وقد تمت‬ ‫ـ‬ ‫تغطية فوهتها بقطعة قماش )ململ( او بغطاء من الخوص. او تناول رشفات مباشرة من‬ ‫)ال ّ ّ( او )ال ُ ّانة( او)ال ُ ّاگة( التي تقوم بجمع )مي الناگوطْ( وذلك بواسطة ِغرفة‬ ‫م‬ ‫بو‬ ‫حب‬ ‫حب‬ ‫يسمونها ) ِنشل( او )جيريّة( ؛ او )بال ّربة( الفخار التي تسمى أحيانا )الك ّ ُزة( او‬ ‫رو‬ ‫ش‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ال ُوز(. أوألستمتاع بشرب )الشنينة( ؛ أو شرابت )النگوع( أو )الزبيب ألسود( او‬ ‫ك‬ ‫)الرمان( أو)قمْر الدين( أو)تمر هند( التي إعتادت النسوة البغداديات على اعدادها‬ ‫وألحتفاظ بها لساعات النهار أو الى حين عودة الرجال وألولد من )الشغل( مساء.‬ ‫وكذلك أكل الفواكه والخضراوات الطرية الطازجة كالطماطة والبطيخ و)التُ ّي(‬ ‫ـك‬ ‫و)المشمش( و)الگوجة( و )ال ِنجاص او مل أحمد( المبردة. أوم ّ قطع من الثلج‬ ‫ص‬ ‫ع‬ ‫.)لترطيب الشفتين وتبريد الفم الجاف )المفل ِم‬ ‫ح‬ ‫وكثيرا ما تفتح أصوات الباعة الدوارين في )الط َف( شهية البغدادي على‬ ‫ر‬ ‫مصراعيها لشراء قطعة من )ال َلْ ُودة( ؛ وقبل ان تحصل على اسم )لكي سْ ِكْ(‬ ‫ت‬ ‫ع ع‬ ‫ألفرنجي. او ان يشتري )گلص بوز( او )دوندرمة( أو )گلصية( أو )أزبري( ؛ او‬ ‫يحصل على صحن من )القيمقْ او القيمقْلي( اللذيذ المصنوع من الحليب الخالص المثلج‬ ‫مع السكر وماء الورد الطبيعي. وكيف كان بعض الباعة يتفننون بصنعه وعرضه‬
  • 2. ‫2‬ ‫بواسطة )العرباين( ألنيقة الصغيرة ؛ وخصوصا الباعة )اليهود( الذين كانوا يدورون‬ ‫على زبائنهم آو معارفهم المفضلين من أصحاب الدكاكين في أسواق )الشورجة( و)قمبر‬ ‫علي و)حنون الصغير( ؛ وفي )الخانات( الكبيرة لتصريف بضاعتهم. وكان )القيمقْلي(‬ ‫.)يقدم في صحون خزفية صغيرة ؛ جميلة الشكل. كل ذلك كان يباع )بعانة‬ ‫آما إذا ما وجد البغدادي نفسه خارج المنزل فقد يحظى بعدد من المتع التي تخفف‬ ‫عنه وطأة الحر وهو يسير خلل )الطرقات( أو)الدرابين( ؛ فيمر بالقرب من بوابات‬ ‫)الخانات( وألسواق و)القيصر ّات( المغطاة ؛ حيث تنسل منها نسمات باردة منعشة كما‬ ‫ي‬ ‫تنسل )الصبايا( و)الحْديثات( من ألبواب ليل لملقات حبيب ما يزال ينتظر عند راس‬ ‫)الدربونة( وهو يرتجف خوفا من أن ينكشف أمره. او ربما يمر بأحد الدور التى تضع‬ ‫على أبوابها أو نوافذها )ع ّاريّة عاگول( تعلوها )ت ّكة( او )پيپ( او )طرمبة( لتزويدها‬ ‫ن‬ ‫م ـ‬ ‫بالماء ، فتراه يتثاقل أو يتوقف قليل عند تلك المحلت لتنسم أكبر قدر من الهواء العليل‬ ‫دون أن يعترضه او يسلب متعته المجانية )ناظر خان( او )صاحب دار( او )شرطي(.‬ ‫وقد يخرج اليه من في الدار )بكاسة( أو )پرداغ( ماء مبرد او ) ِ َح( شربت طبيعي‬ ‫جد‬ ‫لذيذ. فلغرابة في أن تسود تلك المشاعر ألنسانية بين الناس زمن الخير والبركة. فقد‬ ‫وفر بعضهم الى البعض الخر سبل التراحم والمحبة وتقديم العون ؛ ولسان حالهم يقول‬ ‫.))الناس إل َعضها( و)شربة ميْ ل ِسكينْ تبعدك عن جهنمْ سنين‬ ‫م‬ ‫ب‬
  • 3. ‫3‬ ‫أما إذا ما داهمه العطش وهو بعيد عن المنزل ولم تكن لديه نقود ؛ فقد يجد ضالته في‬ ‫)السبيل خانات( المنتشرة في بغداد ألمس لتقديم ماء الشرب المبرد للمواطنين ؛ وقد‬ ‫تبرع بها الناس ألخيار كعمل من أعمال البر والخير وطلبا للنجاة في ألخرة. وليتذكر‬ ‫الناس مأساة )المام الحسين( وهو يلقى ربه وأهله وهم بحسرة الى شربة ماء. وقد تكون‬ ‫تلك )السبيل خانات( )حْ ُوب( او )تانك ّات( معدنية يتم تزويدها بالماء من قبل )السقاقي(‬ ‫ي‬ ‫ب‬ ‫أو بواسطة )بوريات مصلحة ألسالة(. كما يتم تبريد مائها بقوالب الثلج ؛ وذلك قبل أن‬ ‫.تكون الثلجات الكهربائية قد عرفت بعد‬ ‫والسير في )ألسواگة( و)الدرابين( و)ألطراف( أيام )الگيظ( يعد من متع البغدادي التي‬ ‫يحرص عليها حرصا شديدا. فلم تکن مدينة بغداد )المركزية( في عشرينات وثلثينات‬ ‫القرن المنصرم مدينة كبيرة. فهي تقع بين )الباب الشرجي( و)الباب المعظم(. ويقطعها‬ ‫نهر دجلة من الوسط الى صوبي )الرصافة( و)الكرخ(. وتوجد معظم ألسواق في‬ ‫صوب )الرصافة( مثل )سوگ الصياغ( و)سوگ الساعچية( و)سوگ الصفافير(‬ ‫و)سوگ السراجين( و)سوگ السرای او الصراي( و)سوگ الهرج( و)سوگ القزازين(‬ ‫و)سوگ الخفافين( و)سوگ الغزل( و)سوگ الدهانة( و)سوگ الشورجة( و)سوگ‬ ‫حنون( و)سوگ قمبر علي(. وكذلك )الخانات( الكبرى مثل )خان جغان( و)خان‬ ‫زرورْ(. فضل عن الدوائر الحكومية والكليات ودور المعلمين. أما خارج منطقة )الباب‬
  • 4. ‫4‬ ‫الشرجي( فهناك مزارع )الكرادة( التي تنتشر فيها )الچ ُود( و)البكار( و)ألبار(.‬ ‫ر‬ ‫فكانت حقول )الخضراوات( و)الخس( تمتد کالبساط ألخضر من )البتاويين( بعيدا‬ ‫بإتجاه )العلوية( و)إرخيتة( و)أبو قلم( و)الزوية(. كما كانت تأتي مباشرة بعد منطقة‬ ‫)باب المعظم( بساتين )العلوازية( و)الكسرة( العامرة بقصورها العالية ؛ حيث تشاهد‬ ‫منها أنوار قبة ومنارة )ألمام ابي حنيفة النعمان( )رض( والمزينة بالقاشاني المخضر‬ ‫الزاهي الجميل. أما مدينة ألمام )موسى الكاظم( )رض( فكانت تنفرد بموقع خاص يقع‬ ‫قبالة مدينة )ألعظمية( من الضفة الثانية للنهر ؛ حيث تشاهد قباب ومنائر الضريح‬ ‫.المذهبة وهي تبرق في أشعة الشمس وكأنها قناديل متللئة‬ ‫وجميع تلك ألسواق مسقوفة لحمايتها من ألمطار والرياح وأشعة الشمس ووهجها ؛‬ ‫مما يخفف من قسوة الحر ويضعف من هبوب السموم أو)الل ِفْ( وبالتالي تسهيل مهمة‬ ‫ه‬ ‫الشخص المتجول لتمام سياحته وتسوقه. فهو حين يتنقل بين محلت )الفضل( او )باب‬ ‫الشيخ( أو )أبو شبل( وبين )سوك الصفافير( مثل ؛ فانه ل يتأثر بأشعة الشمس المباشرة‬ ‫ول حتى بوهج السموم الشديد إل حين يقطع )الجادات( و)العگود( مثل )جادة خليل باشا‬ ‫- شارع الرشيد( او )عگد الصخر- شارع ألمين( المكشوفة ولدقائق قليلة. فكان‬ ‫المتسوق يستمتع بالتفرج على المحلت او الوقوف عند بعضها ألخر ؛ او السلم على‬ ‫صديق قديم. فكانت الساعات الزمنية تختزل الى مشاهد مريحة للنفس وقد نسي البغدادي‬
  • 5. ‫5‬ ‫حكاية )آب الل ّاب(. فعلى سبيل المثال كان المرء يومها ينطلق من منطقة )راسْ‬ ‫ه‬ ‫الگـ َ ّة( فيمر بجميع تلك ألسواق و)الخانات( ليصل في ألنهاية إلى منطقة )باب‬ ‫ري‬ ‫.المعظم( دون أن يشعر بحر قاس او بتعب شديد‬ ‫ول بد للبغدادي ؛ وهو يتجول لساعات طويلة ؛ من إن يأخذ قسطا من الراحة وليطفئ‬ ‫ظمأه وذلك بزيارته إحدى )الگهاوي( الشهيرة ؛ ومعظمها تقع في القطاع الذي يتجول‬ ‫هو فيه ؛ ومنها: )المصبغة( و)الخفافين( و)المميز( و)الشابندر( و)خليل القيسي(‬ ‫و)عارف( و)حسن عجمي( و)الزهاوي( و)البلدية( وغيرها. فيدلف الى إحداها ليشرب‬ ‫)إستكان چاي( او )چاي حامض( وليرشف )فنجان گهوة( ويدخن )راس ِ ِن هندي او‬ ‫تت‬ ‫شيرازي( لتعديل مزاجه. وقد يود ألستمتاع بصوت الفنان الکبير )محمد الگبنچي( او‬ ‫الفنانة القديرة )سليمة باشا( من )الفونوغراف(. وقد يحمسه صوت المذيع من‬ ‫)الراديون( فينادي )بايع الجرايد( ليطلع على أخبار البلد والعالم ؛ ولينقده )عانة( او‬ ‫.)خمسة فلوس( لقاء ذلك‬ ‫وبالرغم من وقوع )الگهاوي( على مسافات متقاربة غير أن المرء يمكنه الحصول‬ ‫على مشروبات مبردة في كل مكان. من ذلك مثل )پرداغ شربت زبيب( طبيعي من‬ ‫محل الحاج )زبالة( الشهير والقريب من )جامع الحيدرخانة(. وقد يشتهي معه قطعة جبن‬ ‫و)صمونة( لسناد معدته كما يقولون. وهناك كذلك )شربت ِرْگْ السوس( و)لِ َن‬ ‫ـب‬ ‫ع‬ ‫ِنينة(. على أن ل ننسى )شربت َي الورد( المنتشر في تلك السواق وألذي يعد من ألذ‬ ‫م‬ ‫ش‬ ‫الشرابت وأكثرها نقاء وصحة. فهو ليحتوي على أية مواد مضافة ضارة بالصحة.‬ ‫فخلطته ماء قراح قد أضيف اليه قليل من السكر )القند( و)مي زهر( ؛ أي ماء الورد‬ ‫الطبيعي وقطع من الثلج. فلو نظر المرء الى البائع وهو يحمل ) جردل( مليئا بالشربت‬ ‫وقد ُل ّ بالخزف ألبيض مثل ذلك الذي نشاهده في المؤسسات الصحية لظنه موظفا‬ ‫طي‬ ‫صحيا... لبائع شربت !. لقد كان الناس يومئذ جميلي المظهر ومخلصين في عملهم‬ ‫.ويخشون ال كثيرا‬ ‫والمألوف أن كثيرا من البغادة كانوا يتحينون فرصة الخروج من المنزل وألذهاب الى‬ ‫ألسواق لشراء بطل )نامْليتْ( والتلذذ بطعمه الطيب وألنتعاش بمذاق )الصودا( اللذع‬ ‫المحبب. وخصوصا بعد أكلة بغدادية دسمة. و)النامليتْ( مر ِب دخل العراق في بدايات‬ ‫ط‬ ‫القرن الماضي. وقد لقى قبول حسنا من البغادة بعامة والعوائل الموسرة بخاصة. فهو‬ ‫مشروب طبيعي وصحي لخلوه من أية مادة إضافية ومكيفة قد تضر بالنسان. وقد نذكر‬ ‫هنا على سبيل المقارنة مشروب )الكول( الذي دخل البلد في بدايات ألربعينات فهاجمه‬ ‫بعض المختصين وأنتقد محتوياته الكيميائية ؛ وهي خلصة )الكوكا( المكيفة والكافيين‬ ‫.وحامض الفسفور والغليسرين وغيرها‬ ‫وكان البغدادي شديد العجاب ب ُطل )النامليتْ( الذي يزهو بألوانه الجميلة وبهيئته‬ ‫ب‬ ‫ألنيقة الغريبة ؛ وقد تخصر من أعلى وسطه وكأنه جسد غانية إتصف يالجمال‬ ‫وبالرشاقة )أنظر في الشكل السابق(. أما فوهته فيتم إغلقها بواسطة )ال ّعْ ُلة(. وهي‬ ‫د ب‬ ‫كرة زجاجية محكمة الصنع وظيفتها منع إنسكاب السائل أوتسرب غاز الصودا. ويصنع‬
  • 6. ‫6‬ ‫)النامليتْ( لعموم الناس من محلول السكر المضافة اليه المنكهات وأللوان الصحية.‬ ‫ومن ثم يشحن بغاز )ثنائي أكسيد الكربون( لعطائه مذاق )الصودا( اللذع. وقد يكون‬ ‫.)إسم )النامليتْ( قد صحفه الناس وقلبوه عن لفظة )ليموناتا‬ ‫أما ألسر المقتدرة فهي لها خلطتها الخاصة التي تعدها في المنزل ؛ ويسمونها‬ ‫)الشربت( ؛ حيث يجري تحضيرها من )عصير الليمون( او )الرمان( اوغيرهما. او‬ ‫يحضرونه من محلول )الليمون دوزي( و)السكر( و)لون غذائي( بنكهة معينة. وقد‬ ‫يضاف إليها أحيانا )ماء الورد( او )البنفشة(. وبعد ذلك يؤخذ الى معمل التعبئة الصغير.‬ ‫وهناك تتم تعبئته بالقناني الخاصة ذات الكرة الزجاجية وإعادته الى أصحاب )الشربت(.‬ ‫وتعبئة هذا النوع من القناني التي إختفت من حياتنا ولم يعد يتذكر طيفها سوى بعض‬ ‫الشيوخ ؛ ليخلو من إثارة تقنية جميلة. فبعد أن يبدأ العامل بإدخال أنبوب أللة ليمل‬ ‫القنينة )بالشربت( يقوم بفتح صنبور )الغاز( المرافق وبالسرعة المطلوبة. فيأخذ تيار‬ ‫)الغاز( القوي الخارج من )البطل( برفع )الدعبلة( من منطقة التخصر نحو الفوهة‬ ‫بسرعة لتتسمر في الفتحة من الداخل ؛ فتؤدي إلى غلقها ؛ حيث يسمع لها نقر واضح.‬ ‫أما إذا أريد فتح )البطل( لشرب محتوياته فما على المرء سوى إستعمال قطعة خشب او‬ ‫) ُودة( لغرض دفع )الدعبلة( نحو ألسفل. وقد أوتي بعض الشبان من قوة الصابع ما‬ ‫ع‬ ‫يساعدهم على دفع )الدعبلة( ؛ وسط صيحات العجاب من الحاضرين. )أنظر مليا في‬ ‫الرسم أعله(. والملفت للنظر أن هذا النوع من القناني صحي وأمين لن السائل لن‬ ‫.يلمس سوى الزجاج ؛ حسب‬ ‫أما في المنزل ؛ فقد إعتاد البغدادي على القيام بالعديد من الجراآت الضروية‬ ‫للتخفيف من وطأة )آب الل ّاب(. وقبل ألشارة إلى تلك الجراآت ينبغي أن نؤكد على‬ ‫ه‬ ‫حقائق علمية وتقنية تعلمها ألنسان العراقي من تأريخه الناصع الطويل الذي لزمه‬ ‫ملزمة الظل للشاخص. وأول تلك الحقائق أنه كيّف نشاطه اليومي ليتواءم مع بيئتة‬ ‫ـ‬ ‫الحياتية ومع الطقس بفصوله المتقلبة ؛ وبخاصة في موسم الحر الشديد ؛ أي خلل أشهر‬ ‫حزيران وتموز وآب ؛ وفي موسم البرد القارس وخصوصا في )ال ِرْبعان ّة( وبرد‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫)العجوز(. هذا فضل عن ألمطار والعواصف الترابية )ال ُبرة( التي يتضايق منها‬ ‫غ‬ ‫البغادة وخصوصا من كان يشكو من )تنگ نفس( ؛ بل ويتشاءم منها البعض ألخر.‬ ‫لذلك نراهم يعتلون المنابر والمنائر للدعاء قائلين: ) ياقريبْ الفرج ْعالي َل ّا درج ؛‬ ‫بي‬ ‫عبدكْ بشدة ويطلبْ ِنكْ الف َجْ ...ياربْ( كما تسمع النسوة العجائز وهن يولولن: ) بعد‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫.شي يس ّي بينا رب العباد ....هذا كله من أفعالنا الشاينة( !؟‬ ‫و‬ ‫وكثيرا ما يواجه البغادة اياما عصيبة في موسم )الگيظ( وأيام )الوغرة( ؛ وأخص‬ ‫بالذكر )الع ّالة( و)الصنايعچية( الذين يعملون في مهن شاقة )كالحداحدة( و)التكمچية -‬ ‫م‬ ‫السباكين( )والك ّازة( الذين يقفون وجها لوجه أمام )ال ُورة(. وكذلك )المكينچية(‬ ‫ك‬ ‫و‬ ‫وأمثالهم. وقد تتضاعف المعاناة في شهر الصيام ؛ فتجد العمال وهم يقذفون بأنفسهم وهم‬ ‫.)بملبسهم ؛ تحت )طرمبة المي( او أقرب )ساگية( او يدلقون فوق رؤسهم )پياپة المي‬
  • 7. ‫7‬ ‫ولطالما إنحصر حديثنا في موسم الحر؛ وخصوصا في )شهر آب( فسوف نشير‬ ‫وبعبارات قليلة الى خبرة البغدادي الواسعة وباعه الطويل في بناء مدنه وطرقاته‬ ‫ومساكنه وإعداد مستلزماتها ؛ مثلما إختار طعامه وشرابه ولباسه ودواءه. فهو قد جعل‬ ‫مساكنه متجاورة ومتراصة ؛ وطرقاته أقرب ما تكون إلى ألزقة الضيقة المعقودة هنا‬ ‫وهناك للتقليل من آثار أشعة الشمس ووهجها ؛ وللتخفيف من رياح السموم صيفا‬ ‫والرياح الباردة شتاء. وإذا كان لمساكن البغادة الخاصة بالوجهاء مواصفات معمارية‬ ‫شبه معيارية ؛ وقد ترسخت طوال السنين ؛ فأن تصاميم دور العامة من الناس جاءت‬ ‫.بسيطة وعفوية مع إحتفاظها بالشروط البيئية العامة‬ ‫وتتكون دور الموسرين من )حوش( او )صحن( أي فناء في الوسط. وغالبا ما يكون‬ ‫فيه )شذروان( او نافورة. ويحيط )بالحوش( )الطرار( آی الممر و)ألليوان( او االطرمة‬ ‫المعدة لجلوس السرة والتي يتم رفعها على )الدلگات( الجميلة. ثم تأتي )الغرف او‬ ‫الحلوگ(. وبعد مدخل الدار يأتي مباشرة )ال ِجاز( وإلى يمينه )الديوه خانة( ؛ وليس‬ ‫م‬ ‫بعيدا عنها )الحرم(. ثم تأتي المرافق المساعدة مثل )ال ّرداب( و)البادگير( و)ال ِلر(‬ ‫ك‬ ‫س‬ ‫وغرفة )الخدم( و)المطبخ او الموگد( و)الحمام( و)الخلخانة - المرحاض(. ثم يليه‬ ‫الطابق الثاني وفيه بقية الغرف )بشناشيلها( المتعالية البديعة. وقد نجد بين الطابقين غرفة‬
  • 8. ‫8‬ ‫ألرسي( او الشرفة. و ُحمل الشناشيل فوق الجدران بواسطة أعمدة أفقية تسمى(‬ ‫ت‬ ‫)ال َ َص ُنات(. وعادة ما تبنى مثل تلك الدور الفخمة ) بالطابوگ ألصفر المگصوص(‬ ‫جر و‬ ‫أو )بالطابوگ السميچي( المفخور بدرجات حرارة متفاوتة. وتأتي بعد عملية رصف‬ ‫ألجر خطوة )ال ّ ِزْ( العادي. أما إذا طلب صاحب البناء طراز )الچفْ ِيم( الجميل‬ ‫ق‬ ‫در‬ ‫فينبغي عمله أثناء رصف )الطابوگ( بإستعمال )مسطرة( خاصة )أنظر في الشكل جمال‬ ‫الجف قيم(. أما السقوف فتنجز )بالعْگادة( و)الط ُگ( أي ألقواس المعروفة. وقد‬ ‫و‬ ‫أستعملوا كذلك )الطابوگ الفرشي( لرصف ألرضيات والسطوح. واستعملو بعد ذلك‬ ‫)الطابوگ السودائي( المصنوع من مزج )الجير الحي أو النورة( مع )الرمل ألسود(.‬ ‫كما إستعملوا في البناء )ال ُونة( بأنواعها كحشوة مناسبة بين ) ُوف( ألجر ؛ وهي‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫)ال ُ ّ( و)النورة( التي هي مزيج من )الجير الحي( و)رماد الحمامات(. وتتميز هذا‬ ‫جص‬ ‫الحشوة بالقوة وبالمتانة مع مرور الزمن ؛ حيث تتحول الى مادة ذات خصائص إسمنتية‬ ‫متصلبة. أما في إكساء الجدران من الداخل أو من الخارج فعادة ما كانوا يستعملون‬ ‫الجص المعروف بطريقة )البياض( الصقيل او )الل ُخ( او )ال َِج( او )الن ِر(. ولبد من‬ ‫ث‬ ‫مل‬ ‫ب‬ ‫التنويه بأن كافة مواد البناء التي سبق ذكرها تمتاز بالعزل الجيد للحرارة ؛ وقد تعزز‬ ‫.دورها عبر التأريخ الطويل للعمارة البغدادية‬ ‫وقد أدخلت أعمدة )حديد الشيلمان( مؤخرا في عمليات )العگادة(. أما في التغليف‬ ‫فأستعملوا صفائح )الخشب المعاكس( و)ألسبست( الضار بالصحة. كما إستعانوا أخيرا‬ ‫)بصفائح )الچنكو( و)حديد التسليح( و)الخرسانة( مما أخل بمواصفات العزل الحراري‬ ‫للبناء. تلك المواصفة التي لم يولها المسؤلون ألهتمام اللزم بالرغم من أهميتها‬ ‫القصوى. أما الجانب المعماري أو الفني فقد أوله البغدادي ألصيل عناية خاصة منذ‬ ‫آلف السنين وحتى القرن ألخير ؛ حيث بدأ فيه تآكل وتشوه )العمارة البغدادية( ألصيلة‬ ‫من حيث الشكل والريازة والوظيفة والمواصفات ؛ حتى فقدت هويتها التأريخية المعهودة‬ ‫؛ بعكس ما نراه اليوم في )الشام( وفي )مصر( وفي بلدان )المغرب العربي( مثل. بل‬ ‫وقد أدهشنا أن نجد بعض القطار ألوربية مثل )إسبانيا( ما تزال تبذل جهودا كبيرة‬ ‫للحفاظ على التراث المعماري العربي- السلمي العريق. وبالنظر لسعة الموضوع‬ ‫فليس بالمكان شرحه بالتفصيل في هذه العجالة نظرا لضيق الوقت على الرغم من‬ ‫.أهميته وطرافته وعشق البغدادي له‬ ‫أما مساكن البسطاء من البغادة والتي تشكل الغالبية العظمى فتبنى )ب ِ ِرْ الطابوك(‬ ‫كس‬ ‫أو)ألشگنگ( وحتى )الل ِن(. وقليل ما يستعمل فيها ألجر الصحيح لرتفاع ثمنه. أما‬ ‫ب‬ ‫ال ُونة فهي نفس المونة المعروفة. وقد تترك الجدران بدون إكساء او يتم )ملجها( او‬ ‫م‬ ‫)درزها( بإستعمال )الجص(. أما الجدران فتكون عريضة بسبب وجود )التربيع( او‬ ‫الحشو بين الجدارين للتقوية وللعزل الحراري الجيد. لكن مثل تلك الحيطان تكون‬ ‫عرضة إلى )التدو ِلْ( أي أنها ) تنطي بطن( كما يقولون وذلك بمرور الوقت. وقد‬ ‫ب‬ ‫تتعرض إلى ألنهيار فجأة. وكثيرا ما كان البغادة يتندرون حين يشاهدون )توزيرة‬ ‫منتفخة( بأنها )مْر ّة حبلى بشهرها !(. اما السقوف فتكون عادة من خشب )الق َغ(‬ ‫و‬ ‫ي‬
  • 9. ‫9‬ ‫اوجذوع النخيل او ألشجار ألخرى. ومن )الحصران( و)الگصب(. ثم يجري )رشگ(‬ ‫السطح )بالطين( المخمر مع )ال ِ ِن(. وكثيرا ما يطلب البغدادي فتح ) ِماية( او ُ ّة في‬ ‫كو‬ ‫س‬ ‫تب‬ ‫.سقف الدار للضاءة‬ ‫ويحاول البغدادي المقتدر توفير مستلزمات التبريد في مسكنه وإعداد طعامه وملبسه‬ ‫بكل حرص. وأولها بناء ) ِرداب( و)بادگير(. ومن لم يسمع بإسم )البادگير( نقول بآنه‬ ‫س‬ ‫)قناة( في الجدار تمتد من قاع )السرداب( وتنتهي عند ستارة الطابق الثاني. وله وظيفة‬ ‫مدهشة حيث يقوم بتحريك تيار الهواء المبرد في الدار وجذبه نحو الفتحة ومن ثم نحو‬ ‫السطح على وفق قاعدة )الحمل( الفيزيائية. وكثيرا ما إختصم ألبناء حول من ينام عند‬ ‫الفوهة. ول يحسم ألشكالية إل مجئ )ألب( !. وكخطوة رئيسة ينبغي وضع الستائر‬ ‫الخشبية )الپنجور او البنجرة( او )الپردات( على الشبابيك لحجب اشعة الشمس. ووضع‬ ‫)ال َ ّار ّات( المصنوعة من )العاگ ُل( و) ِريد النخيل( عند ألبواب والنوافذ. ولقد‬ ‫ج‬ ‫و‬ ‫عم ي‬ ‫جاءتنا بعد ذلك وسائل التهوية والتبريد الحديثة مثل )الپنكات( و)مبردات الهواء( وأخيرا‬ ‫)مكيفات الهواء( التي جلبت معها ألعطال والمصاريف الباهضة والهموم الثقيلة التي ل‬ ‫نهاية لها. أما على المستوى الشخصي فقد إلتجأ البغدادي الى )المهافيف( اليدوية‬ ‫المنقوعة بالماء ؛ وكذلك )المهفات السقفية المتأرجحة(. كما أولى عناية شديدة بشرب‬ ‫الماء المبرد وإستهلك كميات من الثلج. وإستعمل لهذه ألغراض )ال ِ ّ( الفخار الذي‬ ‫حب‬ ‫ُجِسونه على )ال ّكمْلي( الخشب ويغطونه بصينية او بغطاء من الخشب او بواسطة‬ ‫س‬ ‫ي ل‬ ‫)الچرچف(. وبالنظر لخاصية )ال ِب( المسامية فنجد الماء يتبخر من سطحه فيؤدي الى‬ ‫ح‬ ‫تبريده. كما أن الماء الناضح )ألناگوط( فيتجمع في وعاء صغير يوضع في السفل منه‬ ‫ويسمونه )البواگة(. ويكون ماؤها مبردا لذيذا. أما شرب الماء فيتم بواسطة )ال َنشل( او‬ ‫م‬ ‫)ال ِيرية(. وهي ) ِغرفة( مخروطية الشكل تصنع من القش او العيدان وتطلى بالقار.‬ ‫م‬ ‫ج‬ ‫ويكون الشرب بها لذيذا ومنعشا. وأحيانا يستعمل )الك ّوزْ( لغراض الشرب وهو‬ ‫ر‬ ‫)الك ُز( الفخار. ولجميع تلك الدوات نكهة خاصة محببة ومذاق فريد حين تحتك‬ ‫و‬ ‫بألسنان ويلمسها اللسان والشفتان. وقد يشاهد البغدادي )ال َلگ( وهو يسبح في ماء‬ ‫ع‬ ‫)ال ّب(. وهو في ألصل )يرقات( البعوض او سواه. ووجود )ال َلق( أمر مألوف بين‬ ‫ع‬ ‫ح‬ ‫البغادة. وقد ينفر من شكله الطفل )المكتبلي( الذي علموه مضاره في )المكتب( ؛ فتنهره‬ ‫.)ألم قائلة: )إبني گ ّه و ِزقنبْ....ما شايفْ َلگ !؟‬ ‫ع‬ ‫ش ت‬ ‫وهناك أيضا )ال ُ ّانة( وهي وعاء من الفخار أصغر من )ال ِ ّ(. وكذلك )ال ُنگة( او‬ ‫ت‬ ‫حب‬ ‫حب‬ ‫ال ُلة. وهي على أنواع ؛ لعل اشهرها )الخضراوية(. و)التنگة( هي رفيقة البغدادي أينما‬ ‫ق‬ ‫تنقل داخل المنزل. فحين يصعد الى السطح لغرض النوم أثناء موسم الصيف تسبقه اليه‬ ‫لتستقر على زاوية )المحجر( او فوق )التيغة(. وهي )ال ّتارة( التي تحيط بسطح البيت ؛‬ ‫س‬ ‫لتكون الى جوار أصحابها: )شياف الرگي( و) ِدر البامية البايتة( ذات الطعم المتخمر‬ ‫ج‬ ‫.! اللذيذ والتي كثيرا ما كانت مدعاة للتنافس او المعابثة بين أفراد العائلة الواحدة‬ ‫ولقد بينا سابقا شدة إهتمام إبن بغداد بمأكله ومشربه وملبسه أيام الحر الشديد. فبالنسبة‬ ‫للملبس فنجد الرجل يفضل القمشة المسامية الرقيقة. وقد يفضل بعضهم العكس. ومن‬
  • 10. ‫01‬ ‫بين ألبسته )دشداشة الخام ألبيض( و)الصاية الپوپلين( و)العباية( الرقيقة. ويلبس في‬ ‫ألرأس )العرچين( و)اليشماغ( و)الغترة( و)الكشيدة( و)العگال العادي او المگصب او‬ ‫المكنكر( و)السدارة الفيصلية( السوداء او )السكوچية( الملونة. أما النسوة فيفضلن أقمشة‬ ‫)الجرجيت( و)الحراير( و)الستن( و)الململ(. وفی الرآس )الچرغد( او )الکيش( او‬ ‫.))العصابة( آو)الفوطة‬ ‫أما فيما يتعلق بالمشربات فقد أولى البغدادي عناية فائقة بالعصائر و)بالشرابت(‬ ‫الطبيعية الصحية للتعويض عن السوائل المفقودة بالتبخر حيث أشرنا الى عدد منها ؛‬ ‫أبرزها )شربت النگوع( ؛ وهو )المشمش المجفف( ألذي يعد ارخصها وألذها. وكذلك‬ ‫)شربت الزبيب( السود الشائع بين الناس والذي يصفونه للتلميذ أيام المتحان بأنه‬ ‫)أكسير( للذكاء ! لنه )يشرح الصدر( و)يْصفي المخ( ؛ حتى قالوا فيه قولتهم الشائعة:‬ ‫)شربتْ زبيبْ... والين ِبْ أل ما ي ِيبْ(. ولهذا السبب بالذات كنا نحن طلبة )المدرسة‬ ‫خ‬ ‫د‬ ‫ألعدادية المركزية( من الملزمين لمحل الحاج )زبالة أبو الشربت(. وكان هو يعرف‬ ‫هذه )السالفة( ألعلمية التي لتخلو من صدق. فقد كان يلبي طلبات التلميذ فيزودهم‬ ‫)بگلص شربت براسه( أي )ما مْكا َرْ(. والمشهور عن الزبيب أنه من المواد الغذائية‬ ‫س‬ ‫المركزة والغنية بالسكر ألحادي وبالمعادن وبالحماض العضوية الطاردة لسموم‬ ‫.البدان ؛ فضل عن نكهته الطيبة التى لتقاوم‬ ‫وفي أيام طفولتنا شاعت بين ألسر الغنية والفقيرة على حد سواء صناعة )الدوندرمة(‬ ‫او )البوز( في المنازل كسلح ماض للوقوف بوجه )آب الل ّاب(. وكانت تستعمل لذلك‬ ‫ه‬ ‫الغرض آلة صغيرة تسمى )ال ِلبة(. وهي وعاء معدني دوار توضع فيه )خلطة الشربت(‬ ‫ع‬ ‫المكونة من خلصة )ألزبري( ألحمر او )روح البرتقال( المصنعة والمضافة إلى‬ ‫محلول السكر. ثم يوضع الوعاء الدوار داخل إسطوانة أو وعاء آخر أكبر منه قليل‬ ‫يحتوي على قطع الثلج مع كمية كافية من مسحوق ملح الطعام )أنظر في الشكل(. وبينما‬ ‫يأخذ ألبناء بتدوير وعاء الشربت تأخذ محتوياته بالتجمد لتتحول الى )دوندرمة( لذيذة‬ ‫ومنعشة ورخيصة الثمن. ويكاد اليوم الذي تنوي فيه ألسرة عمل )الدوندرمة( يتحول‬ ‫إلى إحتفالية صغيرة حيث ينافس الكبار الصغار في إلمساك بعتلة )العلبة( لتدويرها وهم‬ ‫ينتظرون بفارغ الصبر إستكمال تجمد الشربت ليهنأوا بأكلة فريدة ل تأتي إل كل صيف‬ ‫لتخفف عنهم شرور )آب الل ّاب( الذي ليرحم. ومن أطرف ما يحصل هنا هو قيام‬ ‫ه‬ ‫ألطفال بتحين الفرصة وإستغفال )ألم( ليأكلوا بأصابعهم شيئا من )الدوندرمة( قبل أن‬ ‫.تجهز بحجة تذوقها. وهذا هو شأن ألطفال دائما‬ ‫وها نحن نصل إلى نهاية هذه السياحة اللطيفة الشائقة التي دعانا إليها )إبن بغداد(‬ ‫الصابر ألبي الذي حفظ لنا تأريخ حاضرته العريقة ورعى تقاليدها الجميلة ؛ لنرافقه‬ ‫في تجواله ولنسير معا في طرقاتها ومشاهدة أسواقها وخاناتها العامرة ؛ وقد إحتضنها‬ ‫حر )آب الل ّاب( و َ ُومه و)لهفه( المحبب. ونامل أن تكون هذه التذ ِرة الخاطفة تحية‬ ‫ك‬ ‫سم‬ ‫ه‬ ‫خالصة له لنبقى ؛ نحن الضاربين في بقاع ألرض؛ خالدين في ذاكرته ووجدانه‬ ‫.وتأريخه‬
  • 11. ‫11‬ ‫أكاديمي مغترب من العراق *‬ ‫‪majidkayssi@yahoo.com‬‬