SlideShare ist ein Scribd-Unternehmen logo
1 von 140
Downloaden Sie, um offline zu lesen
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
‫ت�سميم و�خر�ج: ح�سن �أحمد‬
‫تدقيق لغوي: مرت�سى ح�سن �لغريب - مريز� �لربي‬


           ‫3341 ‪Ω 2012 - ` g‬‬
The holy origami by jaafar hamza
‫‪‬‬
 ‫�إىل �لإن�سان �ملتحرر من "�سندوقه �لأ�سود" لينطلق يف ميادين‬
               ‫�حلياة ِب َنف�ص جديد كل يوم..‬
                                ‫َ ٍ‬

‫�إىل �لإن�سان �مل�سلم �ملالك لأعظم طاقة فكرية ومنهج حياة ف�س َلى‬
      ‫جُ‬
                ‫مر�سومة يف كتاب �سماوي خالد.‬

     ‫�إىل من ميتلك "�خلارطة �لينية" بحياة دنيا و�آخرة..‬

  ‫�أقدم هذه "�لنافذة �ل�سغرية" على تلك �خلارطة �لعظمى...‬
                                                    ‫ّ‬

                   ‫جعفر حمزة - مملكة �لبحرين‬
                ‫�سهر رم�سان �ملبارك ٣٣4١هـ ‪20١2 ‬م‬




                        09


                          
GPS
                                               13


                    
                           
                       25


                    
                     31


             
                  37


                   
              43
          

                51


                             
                                           59



                      
                          67


      
                
                                           73



              81



            87


            
                      93
   101


                          
                  ""       107


                                  
                                     
       113


                          
  
                                                121
      


                            
                127



                    133


                         
                       138
‫‪‬‬
                                                                          ‫‪...¬«pq Wh ¥QƒdG ™æ°U ÚH‬‬
    ‫حترير �لإن�سان من قيود �لفكر �ملرت��سة بني يديه، و�لتي ت�سكل �أطر ً� لفهم ذ�ته وما حوله، نتيجة‬
                                  ‫ّ جُ‬                        ‫َّ‬                              ‫جُ‬
    ‫عرف �أو عقل جمعي منذ ولدته، كل ذلك يجعله يف "�سندوق �أ�سود" ي�سعب عليه �خلروج منه، �إل‬        ‫جُ‬
    ‫يف حالة و�حدة فقط، وهي "�إذكاء �لفطرة" و�إطالقها بحريتها �لطبيعية لتبحث وت�ساأل مثل �آدم ل‬
    ‫يتوقف حتى جُي�سبع َنهم �ملعرفة و�ل�سوؤ�ل عنده. �سوؤ�ل �لفطرة و�لعفوية �لد�فع لت�سكيل م�سار ه�سم‬
                                                                                ‫َ‬
                                                  ‫معنى �لوجود و�لعمل على توظيفه يف �أف�سل �سورة.‬

    ‫وقد ل تكون تلك �لفطرة كافية لتحرير �لطاقة �لكامنة يف �لإن�سان ل جُيدرك من �أين و�إىل �أين وكيف‬
                                                                                     ‫وماذ� وملاذ� وهل؟.‬
    ‫فكان ل بد من معزز خارجي ‪ catalyst‬ي�ساعد يف "�سحب" تلك �لطاقة �إىل جانب "دفع" �لفطرة‬
                                                                                   ‫جُ ِّ‬
                                                                                            ‫من �لد�خل.‬
    ‫ومت ََّثل �ملعزز �خلارجي يف �لأنبياء و�لر�سل حماولني "�سحب" تلك �لطاقة �لكامنة لتخرج من �أجل‬
                                      ‫�لإعمار و�لإ�سالح و�ل�ستخالف �حلقيقي لالإن�سان على �لأر�ص.‬
    ‫وكانت �أد�ة "�لتد ّبر" هي �لأد�ة �لناجعة يف حترير تلك �لطاقة من مكمنها �ملند�ص حتت ركام‬
    ‫�لربجمة �لماعية و�لإن�سد�د �إىل ما هو "متفق" عليه يف �ملجتمع، فكان }بل قالو� �إِنا وجدنا‬
     ‫َ ْ َ ُ َّ َ َ ْ َ‬
                                                  ‫�آباءنا علَى �أُمة و�إنا علَى �آثارهِ م مهتدُون{ �لزخرف 22‬
                                                             ‫َ َ َ َ ّ َ ٍ َ ِ ّ َ َ َ ِ ُّ ْ َ َ‬
                                     ‫خارطة طريق �أولئك �لغا�سون �لطرف عن فهم طاقتهم �ملكبوتة.‬
    ‫ومل تقت�سر مهمة �لأنبياء و�لر�سل على حترير �لإن�سان من عبوديته �لأوىل �ملتمثلة يف �لإنغالق‬
    ‫على �لن�ص �حلركي للعقل �لمعي �ملوجود يف �ملجتمع، بل و��سل �سري ذلك �لتحرير بالدعوة لعدم‬


‫9‬
‫الإنغالق �أي�ض ًا يف فهم الن�صو�ص املقد�سة املتمثلة يف الكتب ال�سماوية، و�أبرزها و�آخرها القر�آن‬
                                    ‫الكرمي، معجزة �آخر الأنبياء والر�سل، ومعجزة �آخر الزمان.‬

‫وت�أتي دعوة "الت�أمل والتد ّبر" من نف�س الكتاب املقد�س وهو القر�آن الكرمي، كالم اهلل تعاىل، وكل‬
‫ن�ص له قابلية ت�أويله، مما خلق تعدد ًا يف املدار�س الفكرية واملذاهب، وهذه طبيعة ب�شرية را�سخة،‬
                                                                                       ‫ٍّ ّ‬
‫فلكل منا نافذته التي يطل عليها لنف�س الغرفة املقد�سة وهي القر�آن الكرمي، ويكون مدار احلديث‬
                                                                    ‫عن نف�س الغرفة ال غريها.‬
‫ومع وجود ن�ص ديني مقد�س وهو كالم اهلل املوجود يف القر�آن الكرمي، ومع وجود ن�صو�ص �أخرى‬
‫من ال�سرية تف�سر كالم اهلل تعاىل، تبقى الدعوة للت�أمل والتدبر مفتوحة. وهذا ما مييز الإ�سالم‬
                                                                                ‫ّ‬
‫عن غريه، فلي�س هناك ن�ص وقفي يلزمه فهم وقفي �أي�ض ًا يف كل القر�آن الكرمي، بل هناك م�ساحة‬
                                                                    ‫ٌ‬
                                                             ‫جُ ّ‬
‫للتدبر والدخول يف عمق بحر لي يف كالم اهلل تعاىل، واحلديث هنا عن كالم اهلل تعاىل وعملية‬
 ‫الإ�سقاط احلركي لآياته يف حياتنا املعا�صرة، ولي�س لتلك التي لها جنبة ت�شريعية وا�ضحة ومثبتة.‬

‫وهذا ما ين�سف �أي �سلوك كهنوتي ُيبعد العقل عن التدبر والتفكري ويح�صر الأمر على فئة دون‬
                                                                                               ‫�أخرى.‬
              ‫ومن منطلق الآية الكرمية }�أَفل يتدبرُ‌ون القرْ‌�آن �أَم علَى قلوبٍ �أَقفالهَا{ حممد 42‬
                          ‫َ اَ َ َ َ َّ َ ْ ُ َ ْ َ ُ ُ ْ َ ُ‬
‫ت�أتي هذه التجربة املتوا�ضعة من فرد م�سلم م�ؤمن بتحرير الطاقة الكامنة يف التفكري والتمثيل‬
                                                                   ‫العملي للآيات يف كل ع�صر وم�صر.‬
                                                                       ‫ِ‬

‫فالإ�سالم قدم القر�آن كتاب ًا �سماوي ًا خلامت الر�سل، وما زال هذا الكتاب يزخر ببحور ي�ستحق بناء‬
                                                                                   ‫ّ‬
                                                                        ‫�سفن التدبر والعمل لها.‬
‫الأوريغامي ‪ ،origami‬هو فنٌ ياباين لطي الورق، فمن ورقة عادية ميكن �أن يخرج منها �ألف‬
‫�شكل و�شكل، وحتوي الآيات القر�آنية التي حتت�ضنها كل �صفحة من القر�آن قدرة هائلة من املعاين‬
                      ‫والدالالت التي ال تنتهي، لذا كان القر�آن الكرمي �صاحل ًا لكل زمان ومكان.‬




                                                                                                        ‫01‬
‫جتربة متوا�ضعة يحاول الكاتب �أن يطوي الورق بطريقته اخلا�صة ليقدمه للقاريء، والذي ب�إمكان‬
     ‫الأخري �أي�ض ًا �أن يطوي عرب "التدبر" نف�س الآيات ليقدم �شكال �آخر وهكذا. لتطوف عقول املتدبرين‬
                                        ‫ً‬
     ‫حول �أقد�س و�أ�صفى ينبوع فتنهل منه �سلوك ًا وفكر ًا ير�سم مالمح منتجة يف الثقافة وال�سيا�سة‬
                                ‫ُ‬
     ‫واالقت�صاد، وتبقى متعة التدبر والربط بالقر�آن الكرمي �أف�ضل "مترين" ميكن للفرد القيام به‬
     ‫ليعي�ش كالم اهلل واقع ًا ملمو�س ًا ال بني دفتي م�صحف نلم�سه بجوارح ثالث فقط: اللم�س والنظر‬
        ‫وال�سمع. بل تتعداه لتعي�ش يف البعد الثالث ومع التعمق فيه ن�صل للبعد الرابع واخلام�س و�أكرث.‬
                                                ‫ّ‬

     ‫ومن اجلدير بالذكر �أن بذرة الت�أمل والتدبر انطلقت قبل عام كامل من الآن ب�صورة ب�سيطة يف‬
     ‫�صفحتي ال�شخ�صية يف الفي�س بوك، وكان التفاعل متوا�ضع ًا، لتكون امل�ساحة اجلديدة للت�أمل ون�شره‬
     ‫عرب جمموعة �شبابية با�ستخدام برامج التوا�صل يف الهواتف الذكية. وكان �شهر رم�ضان قبل عام‬
     ‫من ن�شر هذا الكتاب هي البيئة اخل�صبة للت�أمل وزراعة الأفكار ون�شرها، ليكون "احل�صاد" بعد‬
                                                                     ‫ح ْول كامل يف �شهر رم�ضان جديد.‬
                                                                                                   ‫َ‬

                                                                     ‫ً‬
     ‫ويحوي هذا الكتاب ٨١ ت�أمال لبع�ض �آي الذكر احلكيم، وي�ستند الت�أمل يف كثري منه على طريقة‬
     ‫"طي" الفهم للكاتب، ويف البع�ض الآخر على ت�شابك م�ستند على �سرد الآيات وق�صتها وربطها‬
                                                                                            ‫بالواقع.‬
     ‫�إ�ضافة اىل التدبر، �أ�ضاف الكاتب تلخي�ص بع�ض ر�سالة الآيات عرب �أ�شكال هند�سية، تعطي‬
                                                      ‫ملخ�ص ًا ب�صري ًا عن الآية وداللتها الت�أملية.‬

                      ‫وكما هو بي من عنوان الكتاب، فهو مقدم لت�أمالت لبع�ض الآيات، ال تف�سري لها.‬
                                                                    ‫ّ‬                            ‫ِنّ‬
     ‫جتربة ب�سيطة، �أ�أمل �أن تفتح �آفاق ًا �أرحب لل�شباب امل�سلم يف الت�أمل و"طي" التدبر كل ح�سب قدرته‬
                   ‫ٌّ‬
     ‫وزاويته ليقدم "�أوريغامي - تد ّبر" جديد، يعي�شه �سلوك ًا وفكر ًا و�إنتاج ًا يف ميادين احلياة املختلفة.‬
                                                                                               ‫ّ‬

                                                                                        ‫جعفر حمزة‬
                                                              ‫�شهر رم�ضان ٣٣٤١هـ - �أغ�سط�س 2102م.‬
                                                                                     ‫مملكة البحرين‬

‫11‬
12

     
                  GPS




13
‫حْ َ ْ ُ هَّ ِ َ ِّ ْ َ َ‬          ‫ْ ِ هَّ ِ َّ ْ َ ِ َّ ِ‬
‫}بِ�سم الل الرحمن الرحِ يم (1) المد لِل رب العا مَلِني (2) الرحمن الرحِ يم (3) مَالِكِ يوم‬
‫َِْ‬               ‫َّ ْ َ ِ َّ ِ‬
‫الدّين (4) �إِياك نعبد و ِ�إياك ن�ستعني (٥) اهْ دِ نا ال�صر‌اط ا مْلُ�ستقِيم (٦) �صر‌اط الذِ ين �أَنعمتَ‬
  ‫ِ َ َ َّ َ ْ َ ْ‬          ‫َ ِّ َ َ ْ َ َ‬                         ‫َّ َ َ ْ ُ ُ َ َّ َ َ ْ َ ِ ُ‬   ‫ِ ِ‬
                                                                ‫َ ْ ِ ْ َ رْ ِ‌ ُ َ ْ ِ ْ َ اَ َّ ِيّ‬
                                                       ‫علَيهم غي ا مْل َْغ�ضوبِ علَيهم ول ال�ضال (٧){‬

‫ب�سم اهلل الرحمن الرحيم هي �آية ا�شتعال حمرك كل فعل وعمل ونية لل�سماء على وجه الأر�ض، هي‬
                                                 ‫ّ‬
‫العنوان العام املتحرك با�سم خالق الكون، وهي الب�ساط املمتد من قلب امل�ؤمن يف �صناعة كل قوالب‬
                                                        ‫العمل الر�سايل والتغيريي يف املجتمع.‬

‫الب�سملة �أول �آية يف القر�آن الكرمي وهي جزء ال يتجز�أ من �أول �سورة، �إذ تُعد جزء من احلمد،‬
                                                  ‫ً‬
‫وميكن اعتبار الرتكيبة الو�صفية لهذه الآية �إختزاال مل�سار العبد �إىل ربه، فابتداء الإ�ستعانة باخلالق‬
‫عرب "الباء" يف ذكر ا�سمه الأعظم الذي ال ُيطلق على غريه حتى مع الآلهة املزيفة الإن�سية منها‬
                ‫�أوامل�صنوعة، فال ُيقال "اهلل" �إال �إليه فقط، وهو اال�سم اجلامع لكل �صفاته تعاىل.‬

‫فيبد�أ العبد بذكر ا�سم اهلل وتعقيب ًا ب�صفتني اثنتني كدائرتني حميطتني بالعبد، دائرة الرحمانية‬
‫والرحيمية، الأوىل هي الدائرة الأكرب ال�شاملة لكل املوجودات مما يعطي الدفعة الكونية للعبد‬
‫ملعرفة حقيقية بخالقه وا�سع الرحمة لكل موجود، فبالتايل تكون نظرته وواقعه وتفاعله مع الأمور‬
‫خمتلف ًا ومنطلق ًا من موقع قوة الإميان باخلالق الذي �أحاط بكل �شيء دون ا�ستثناء. وهو نف�س الأمر‬
‫الذي يهبه التحرك للإكت�شاف والتفاعل والتمازج مع الكون املحيط به، فمن خلقه هو من خلق هذا‬
                                  ‫الكون، فيكون التفاعل مع املحيط مطلوب ًا قبل �أن يكون متوقع ًا.‬

‫ويتحرك للداخل يف �أعماق ذاته عرب خ�صو�صية الرحيمية املوقوفة لعباد اهلل امل�ؤمنني، وبالتايل‬
                                                                                       ‫ّ‬
‫تكون �شرارة التغيري ابتداء بذكر ا�سم واهب الطاقة و�صانعها ا�سم ًا "اهلل"، ويردفها العبد بذكر‬



                                                                                                           ‫41‬
‫دائرتي الرحمن والرحيم، ليكون كل ما ومن يتحرك �إليه وفيه وعنه ومعه �ضمن تلك الدائرتني ال‬
                                                             ‫غري وال يكون فعال �أو واقع ًا �إال بهما.‬
                                                                                    ‫ً‬

     ‫الب�سملة عنوان امل�ؤمن مما يجعلها عنوان ًا حقيقي ًا لكل فعل، واحلديث "كل �أمر ذي بال مل ُيذكر‬
     ‫فيه ب�سم اهلل فهو �أبرت"، ي�شري �إىل �أنّ النق�صان يف كل �أمر مرهون بعدم اكتمال معادلة الكون‬
           ‫الأ�سا�سية يف النظر والعمل يف الأمور، وهو وجود اهلل ذكر ًا ونية وحركة وعمال فيما نقوم به.‬
                          ‫ً‬
     ‫ومت ّثل الب�سملة كقول اعرتاف ًا وا�ضح ًا باخلط العملي للإن�سان، فال يقول ال�سارق ب�سم اهلل وهو‬
     ‫ي�سرق، وال يقول الزاين ب�سم اهلل وهو يزين، وال يقول القاتل ب�سم اهلل وهو يقتل، �إال ا�ستثناء من‬
     ‫حتوير الدين برمته �إىل دين م�ش َّوه للفتك بالآخر بعناوين مقد�سة، فتكون الب�سملة من الأدوات‬
                                                                        ‫ُ‬
     ‫امل�ش َّوهة –بفتح امليم-، فرنى الإرهابي يذبح بريئ ًا ويذكر ا�سم اهلل عليه!، ومع ذلك ال يقول الزاين‬
                                                                                                    ‫َ‬
                                                                  ‫�أو ال�سارق ب�سم اهلل وهو يقوم بفعله!‬
     ‫الب�سملة خطة وم�سار وخارطة طريق للم�ؤمن، وجهر ُه بها �إعالن بخطه الر�سايل، وهو ما يجعل فعل‬
             ‫اجلهر بها من �صفات امل�ؤمنني، كما ورد يف احلديث عن الإمام الع�سكري "عليه ال�سالم":‬
                            ‫ّ‬
     ‫(عالمات امل�ؤمن خم�س: �صالة �إحدى وخم�سني، وزيارة الأربعني، والتختم باليمني، وتعفري‬
                                                  ‫اجلبني، واجلهر بـ }ب�سم اهلل الرحمن الرحيم{).‬
                                                            ‫َّ‬       ‫َّ‬

     ‫واجلهر �إعالن عن حالته التي هو فيها، ولو بالإمكان قولها �إخفات ًا. وما القول جهر ًا �إال �إعالن‬
     ‫�صوتي عن اخلط والتوجه والفعل بعدها، وهي حالة حركية ظاهرية لإبراز م�سارها �أينما كان‬
                                                                                              ‫امل�ؤمن.‬

     ‫فال تقت�صر الب�سملة على ذكر اللفظ، بل هي "الو�صفة" التي ال تُلفظ �إال لأجل فعل ر�سايل �إن�ساين‬
     ‫�سماوي مغيرّ للأف�ضل. ف�أ�صبحت الب�سملة عنوان ًا فا�صال منذ بداية الر�سالة، فرف�ضت قري�ش‬
                                                ‫ً‬                                                ‫ُ‬
     ‫الب�سملة يف العهد املكتوب بينها وبني الر�سول الأكرم (�ص)، وجزء منها بقي دون م�سا�س يف وثيقة‬
                                                         ‫قري�ش يف الكعبة التي �أكلتها الأَر�ضة -احل�شرة-.‬
                                                                       ‫َ َ‬
     ‫وتبقى الب�سملة عنوان امل�ؤمن يف حركاته و�سكناته كتميمة �سماوية تُذكره باملن�ش�أ وتُعينه على امل�سري‬



‫51‬
‫بذكرها لنف�سه. وك�أنها "اخلتم" الذي ي�ضعه امل�ؤمن على كل عمل ُيقدم عليه، وما لذلك "اخلتم"‬
                                                           ‫من هدفية ومعنى ور�ؤية وتغيري.‬

                                                                       ‫حْ َ ْ ُ هَّ ِ َ ِّ ْ َ َ‬
                                                                    ‫} المد لِل رب العا مَلِني {‬
                                                                 ‫هنا ذكر نتيجة بو�صف ال�سبب.‬
‫مبعنى �أن احلمد ال يكون �إال ل�سبب �أمر �أ�صلي ال عار�ض وهي النعمة، ومل ُيذكر هنا ال�شُكر بل‬
‫احلمد، واحلمد تعظيم لأجل ما �صدر من �صاحب الإنعام، �سواء و�صل للفرد مبا�شرة �أم  مل ي�صل،‬
                                     ‫بعك�س ال�شكر، وهو تعظيم لأجل �إنعام ي�صل للفرد مبا�شرة. ‬
‫وبوابة الفاحتة ت�أتي من خالل حمد اخلالق املو�صوف بالآية بـ "رب العاملني"، فحركة احلمد‬
‫اخلا�صة باهلل يتبعها و�صف هلل تعاىل. ف�أي خالق �أحب  باحلمد هلل  كرب العاملني؟ وبعد �إطالق‬
                       ‫ّ‬
‫�شرارة م�صباح هذه ال�سورة بالب�سملة ي�ستمر زيتها باحلمد والو�صف للخالق يف عملية متوا�صلة‬
‫من و�ضع م�سرية العبد يف عالقته مع ربه، وذلك عرب هذه الآية الأوىل التي �ستكون "نربا�س" كل‬
                                                                                          ‫ال�سورة.‬

‫فعنوانها التوحيد املطلق، ونبذ لكل �آلهة غري اهلل، لت�سقط كل الأ�صنام مادية كانت �أو معنوية ليبقى‬
                        ‫الرب احلقيقي املالك للوجود واملانح للحياة دون غريه وهو اهلل جل وعال.‬
                                        ‫ّ‬
‫وعند �إدراك التوحيد تربز قيمة الإن�سان ب�إن�سانيته احلقة، بحريته وكرامته و�سبيل تكامله. فتعدد‬
‫الآلهة �أو �إنحراف الطريق لغري اهلل الواحد الأحد ُيف�ضي �إىل ا�ستنزاف طاقة الإن�سان يف غري‬
‫موردها، ليتم ا�ستغالله من قبل حمرتيف �صناعة الآلهة من رجال دين �أو �سلطة حاكمة، ويكون‬
   ‫النتاج الب�شري من�صب ًا يف تلك ال�سيا�سة الدينية املُعلنة، فيكون الإ�سفاف بالعقل والفطرة مع ًا.‬

‫فلي�س هناك كرامة لإن�سان دون توحيد خال�ص هلل، فغيابه ت�شويه لهدف اخللقة بوجود التعددية‬
‫�أو بغياب اخلالق يف املجتمع، و�إذا غاب الهدف احلركي واملُكرم للإن�سان يف حياته الدنيا ب�سبب‬
                                 ‫ّ‬
‫ذينك ال�سبيلني "التعددية �أو الإحلاد"، غاب "الإن�سان" و�أ�صبح كمثل �إن�سان "الغاب". ال هدفية،‬
                                         ‫ال كرامة وال بناء ي�شعر الإن�سان بقيمته يف هذا الوجود.‬



                                                                                                     ‫61‬
‫وهذه الآية الكرمية راية توحيد وا�ضحة وخمت�صرة.‬

                                                                                 ‫} الرحمن الرحِ يم ِ{‬
                                                                                         ‫َّ ْ َ ِ َّ‬
     ‫وي�ستمر زيت الو�صف بالتدفق يف و�صف اخلالق لي�ضيء م�صباح قلب هذا الإن�سان �أكرث، فمن‬
                                                                                  ‫ت�صف وكيف ت�صف؟ ‬
     ‫رب العاملني، وبعدها "الرحمن الرحيم" فهو اخلالق للعامل كله، و�أي�ض ًا هو الرحمن به والرحيم‬
     ‫عليه، جمع بني �صفتي القدرة والرحمة، ولي�س بذي قوة رحيم وال كل ذي رحمة به قوة، �إال اهلل‬
                                                                                                 ‫تعاىل.‬
     ‫و�إعادة ال�صفتني هنا لي�س تكرار ًا بل و�صف ًا تكميلي ًا للوحة كونية متنا�سقة بني و�صف ال�سبب ور�سم‬
                                                                                  ‫طريق من ي�سري عليه.‬
     ‫ويف ذلك تربية يومية يذكرها الإن�سان امل�سلم يف �صالته كل يوم "�ستني مرة"، در�سُ الرحمة من‬
     ‫الرب، ليعك�سها الإن�سان يف �سلوكه مع املحيط، من �إن�سان وحيوان ونبات وجماد. در�س يزرع يف‬
                 ‫ٌ‬
                                                                                ‫الإن�سان الرحمة واللني.‬


                                                                          ‫} مَالِكِ يوم الدّين {‬
                                                                              ‫َِْ ِ ِ‬
                             ‫�ألي�س من املنطقي �أن يكون خالق الكون هو مالك يوم القيامة والآخرة؟‬
     ‫بالطبع وما ذكره هنا �إال لت�أكيد ذلك بالفعل وهو م�ؤكد بالقوة –عند الإن�سان-، والآية ت�صف‬
                                              ‫بلفظني فقط م�شهد ًا مذهال ومهوال عن يوم القيامة.‬
                                                              ‫ً‬      ‫ً‬

     ‫"مالك" واملالك �أي امل�سيطر واملتحكم وكل �شيء �إليه راجع، وتنقطع كل الأ�سباب الظاهرية‬
                                ‫وتتج ّلى املالكية احلقيقية هناك يف يوم القيامة والعدالة املطلقة.‬

     ‫"يوم الدين" وهو يوم الإن�صاف والعدالة ويوم اجلزاء وجت ّلي الدين فيه بكل عناوينه وم�صاديقه. ‬
     ‫هو اليوم الذي يعتدل فيه ميزان الكون برمته-والذي �أخ ّله الإن�سان بطغيانه وطمعه- وي�أخذ كل‬



‫71‬
‫ذي حق حقه، ولي�س هذا مبدعاة للتواكل، بل هو حجة وثواب وجزاء تقدمه ال�سماء لكل من ي�سعى‬
                ‫لإحالل هذا التوازن الكوين و�إرجاعه �إىل طبيعته عرب الفطرة ال�سليمة للإن�سان.‬
‫ذلك اليوم الذي يدفع الإن�سان امل�ؤمن حل�ساب نف�سه جيد ًا منذ الآن، ففي الدنيا عمل بال ح�ساب‬
‫ويف الآخرة ح�ساب بال عمل. مبد�أ املعاد تذكره هذه الآية الكرمية بطريقة خمت�صرة جد ًا وفـي‬
                                                                        ‫لوحة �إعجازية عميقة.‬

‫�أمل ال يتوقف عن احلركة والإجناز للدنيا، وحما�سبة ال تغيب حلظ العني للآخرة. ميزان مثايل‬
    ‫مبهر لإحداث التغيري الإيجابي عند الإن�سان امل�ؤمن، �إذا ما �أدرك حقيقة "مالك يوم الدين".‬      ‫ُ‬
                                                    ‫ومن الب�سملة �إىل هذه الآية خط خلق كامل:‬
‫ابتداء با�سم اخلالق املك ِّون وحمد للخالق وو�صفه بالربوبية للعاملني جميع ًا، و�إكمال ذلك الو�صف‬
                                                              ‫ٌ‬
                                                                   ‫ً‬
                     ‫بالرحمانية والرحيمية و�صوال �إىل �إقرار هذه العظمة مبالكيته ليوم الدين. ‬
‫�أربع �آيات فقط ت�صف ابتداء امل�سرية �إىل نهايتها متهيد ًا خلارطة طريق وا�ضحة يف الآيات الأربع‬
                                                                     ‫املتبقيات يف ال�سورة املباركة.‬

                                                                    ‫َّ َ َ ْ ُ ُ َ َّ َ َ ْ َ ِ ُ‬
                                                                 ‫} �إِياك نعبد و ِ�إياك ن�ستعني {‬
 ‫ً‬
‫و�أول اخلطوات العملية للتغيري هو تزويد حمرك العمل للإن�سان امل�ؤمن باهلل بوقود العبودية �أوال،‬
                                                    ‫ّ‬
‫ومفهوم العبودية هلل هو �أ�صل احلرية يف الكون، فم�ساحة العبودية هلل هي بحجم كل الكون دون‬
                                                                                             ‫حدود. ‬
‫"�إياك نعبد و�إياك ن�ستعني" ال تكون الإ�ستعانة �إال من ذي قوة، وهي فعل الطلب، وال يكون‬
‫الطلب �إال بتحقق من لديه تلك القوة، لذا وجب تثبيت �صاحب القوة قبل اال�ستعانة. فكان‬
                                                          ‫الإقرار بالعبودية قبل طلب اال�ستعانة.‬

                    ‫ُ‬
‫وتبد�أ هذه الآية  مبخاطبة الإن�سان لربه -�إياك-  يف خطاب مبا�شر به القرب ال ال ُبعد، خطاب‬
‫العبودية قبل اال�ستعانة، �إذ ال تكون الإ�ستعانة �إال بقوي ج ّبار، لذا بد�أ خطاب الإن�سان امل�ؤمن‬
                                ‫بالإعرتاف بالعبودية العملية لتكون الإ�ستعانة باملعبود متحققة.‬



                                                                                                      ‫81‬
‫والإقرار بالعبودية هنا معناه ت�سليم مطلق للعبد امل�ؤمن لربه، مما ينعك�س على �إظهار قوته يف كل‬
     ‫ميدان يف احلياة، �إذ تت�صاغر �أمامه كل الدنيا دون تعظيم "خمتلق" �أو �أخذ ب�أ�سباب �أر�ضية فقط،‬
     ‫وهو ما يجعل امل�ؤمن ع�ص ِّي ًا على من يريد �إذالله وا�ستعباده يف الدنيا، ليكون حر ًا طليق ًا يف كل‬
                                                                                  ‫َ‬
     ‫ميدان، ومنتج ًا فاعال �أينما كان يف كل جماالت احلياة، ليعي�ش العزة يف نف�سه دون ارتباط �أر�ضي‬
                                                                                    ‫ً‬
     ‫يحد من حريته ك�إن�سان ميلك م�صريه، فيتحرر من كل قيود اال�ستعباد ب�شتى ال�صور يف ال�سيا�سة‬
                                                                                      ‫واالقت�صاد والثقافة.‬

     ‫وتكرار اال�ستعانة ب�إياك بعد تكرار العبودية بها، ت�أكيد م�ستمر ومتوا�صل يف ذلك اخلط الذي يبد�أ‬
           ‫ب�إقرار التمازج مع حركة الكون الطبيعية يف العبودية لتكون منطلق ًا للتغيري ب�أداة الإ�ستعانة.‬
      ‫وعندما يقر العبد بعبوديته ملواله، ف�إن املوىل يهبه القدرة والت�صرف مبا يكون للموىل له هدف‬
                                                                                  ‫وللعبد به قدرة وتطور.‬
                                                                                                               ‫ ‬
                                                                             ‫َ ِّ َ َ ْ َ َ‬
                                                                           ‫} اهْ دِ نا ال�صر‌اط ا مْلُ�ستقِيم {‬
     ‫بعد و�صف هلل عروج ًا �إىل و�ضع حجر الأ�سا�س من اعرتاف حقيقي للعبودية �إىل دافعية اال�ستعانة،‬
     ‫ت�صل الآيات �إىل مفرتق الطرق بعد كل تلك الآيات الكرميات التي وفرت الأر�ضية لتقدمي الأدوات‬
                   ‫للإن�سان من �أجل معرفة موقعه يف الكون -�إياك نعبد- وكيف يبد�أ -�إياك ن�ستعني-.‬
     ‫يكون م�سار الإن�سان الر�سايل العابد العامل هو الو�صول �إىل ال�صراط امل�ستقيم، وال يكون ذلك‬
      ‫بدون هداية، فال القلب وحده يكفي مبعزل عن العقل للو�صول �إىل ال�صراط امل�ستقيم، وال العك�س‬
                                                                                                    ‫�صحيح.‬

     ‫فالهداية يلزمها �ضلعان �أر�ضيان وثالث �سماوي وهو الأهم، فال�ضلعان الأر�ضيان هما القلب‬
     ‫للإميان والعقل للر�سالة، وال�ضلع الثالث هو الهداية والتوفيق.وهل هناك �صراط غري م�ستقيم؟‬
     ‫كل ال�س ُبل ولو كانت معبدة والتي تفتقد �إىل �إ�شارات �سماوية فيها تكون غري "م�ستقيمة"، �إذ يكون‬
                                                                             ‫ّ‬                ‫ُ‬
     ‫من ورائها ب�شر، وبالتايل تكون نظرته قا�صرة، والنتيجة وجود �سبل وطرق غري حممودة العواقب‬



‫91‬
‫لنق�ص معبدها. ‬
                                                                                            ‫ُّ‬
‫لذا ال بد للإن�سان من م�سار يكون عليه ال مبعنى اجلرب الفر�ضي، بل بعنوان ال�سنة الكونية التي‬
                    ‫ُ‬
               ‫َّ َ َ ْ َ ُ َّ ِ َ َّ َ ِ ً َ َّ َ ُ ً‬
‫يكون له مطلق اختيار ما يريد من م�سار } �إِنا هديناه ال�سبيل �إِما �شاكر‌ا و�إِما كفور‌ا {الإن�سان 3،‬
                              ‫فاالختيار بني يديه ال جرب مطبق وال تفوي�ض مطلق يف حركاته و�سكناته.‬
                                                                           ‫ُ‬
‫ فاختيار ال�صراط �أو امل�سار �سنة كونية ملعرفة �إىل �أين تتجه ومل تتجه وكيف تتجه؟ �إىل هدفية‬
                                                                         ‫ُ‬
‫الوجود �إليك، وال يعيق ذلك كل العوار�ض احلا�صلة يف احلياة من موت �أو مر�ض �أو �سجن �أو غريها‬
‫من �أمور قد تبدو �أنها تُبطئ حركة ال�سري يف ذلك ال�صراط، لذا ترى الكثري من الآيات والأحاديث‬
‫التي تدفع يف اجتاه امل�سري ولو اعرت�ض عار�ض فيه و�أدى �إىل الغياب الأر�ضي و�أنت ما زلت تعمل‬
                                                                                      ‫يف ذلك ال�سبيل.‬

‫وما حديث �أمري امل�ؤمنني علي بن �أبي طالب (ع)  �إال مثال ود�ستور عملي جميل يبني ذلك ويقدمه‬
‫بطريقة عملية "اعمل لدنياك ك�أنك تعي�ش �أبداً واعمل لآخرتك ك�أنك متوت غداً". تلك هي‬
‫معادلة الإنتاج دون توقف. وال تكون �إال يف �صراط م�ستقيم ي�ضمن ا�ستمراريتها، ووقودها الذي‬
                                              ‫ي�ضخه الإميان بحقانية هذا ال�صراط و�أزليته.‬

‫فما دام ال�صراط الذي مت�شي عليه "م�ستقيم ًا" ف�ضمان نتاجه دني ًا ملمو�س ًا ولو بعد حني، ويف‬
                                                   ‫الآخرة م�ضمون ًا بلحاظ الوعد الإلهي يف ذلك. ‬
‫وما دام ال�صراط امل�س�ؤول عنه من رب العاملني بقول "اهدنا"، فطلب الهداية هنا من رب العباد،‬
‫ف�سيكون اجلواب يف حمله ال غري، ومع ذلك ي�أتي التو�صيف عرب الت�صنيف التايل ك�إ�شارات طريق،‬
‫تلك "طريق غري معبدة" وتلك "�أمامك مرتفعات" وثالثة "الطريق غري �سالكة"، لذا ال بد من‬
                                                                  ‫و�صف �أي �صراط هو املق�صود.‬

‫ت�أتي الآية التالية لتو�ضيح ال�صراط وماهيته.} �صر‌اط الذِ ين �أَنعمتَ علَيهم {هو ال�صراط الذي‬
                   ‫ِ َ َ َّ َ ْ َ ْ َ ْ ِ ْ‬
‫�سلكه ال�سائرون املُنعم عليهم من ف�ضل اهلل ونعمه التي ال تحُ�صى، وكما تذكر بع�ض التفا�سري هو‬
                                                                       ‫َ‬
    ‫ملن �شملته بالنعمة الإلهية وهم �أربع جمموعات ذكرتها الآية الكرمية يف �سورة الن�ساء، وهي:‬



                                                                                                        ‫02‬
‫ِ َ َ ّ َ ُ َ َ َ َ َ ّ َ َ ْ َ َ ُ َ ْ ِ ْ َ ّ َ ِ َ َ ِ ّ ِ ِ َ َ ُّ ِ‬
     ‫}ومنْ يُطِ ع اهلل والر�سول ف�أُولئِك مع الذِ ين �أَنعم اهلل علَيهم مِ ن النبيني وال�صدّيقني وال�شهَداء‬ ‫ََ‬
                                                                                          ‫وال�صالني وح�سن �أُ‬
                                                                ‫َ َّ حِ ِ َ َ َ ُ َ ولئِك رفِيقاً{ الن�ساء 96.‬
                                                                                   ‫َ َ َ‬
     ‫بداية ظهور النعمة تبد�أ بزلزال �أر�ض املجتمع بوجود الأنبياء و�إعالن الثورة، ومن ثم يكون ال�صف‬
     ‫الثاين لهم ممن �أنعم اهلل عليـهم وهم ال�صديقون ملوا�صلة م�سرية الإ�صالح والثورة على ظلم‬
     ‫الإن�سان لنف�س ــه وغريه، وبعدها ت�أتي مرحلة الت�ضحية والفداء بالـ ــروح عب ــر ال�شه ــداء لتثب ــيت‬
     ‫هــذا الطريـق ودفــع ثمن ــه على الأر�ض، ويك ـ ــون املـ�ســار الأخ ـيـر هو ا�ستم ــرار لذلـك النهج عبـر‬
        ‫} ال�صاحلني { العاملني يف املجتمع. وتلك املجموعات �أ�شار �إىل نكتتها �صاحب تف�سري الأمثل.‬

                                                                              ‫} غي ا مْل َْغ�ضوبِ علَيهم {‬
                                                                                ‫َ رْ ِ‌ ُ َ ْ ِ ْ‬
     ‫من كان مغ�ضوب ًا عليه تنعدم معه الإ�شارات للو�صول �إىل طريق م�ستقيم، فعندما يتحرك العبد‬
     ‫وهو مغ�ضوب عليه من اهلل، نتيجة �أي �سبب ي�ستلزم ذلك الغ�ضب، فال ميكن �أن يهتدي لل�صراط‬
                                                          ‫امل�ستقيم، لأنه بب�ساطة فقد "بو�صلة" الطريق.‬
     ‫هم �أولئك الذين اختاروا العناد و�صم الآذان وتغييب العقل مع الفطرة من �أجل م�صاحلهم الآنية،‬
     ‫�أولئك الذين ا�ستحبوا احلياة الدنيا على الآخرة، هم املعاندون املنافقون امل�شحونون حقد ًا و�سواد ًا‬
     ‫على �سبيل ال�سماء، فكان الغ�ضب الإلهي ن�صيبهم. واليهود املعاندون هم �أبرز م�صداق لهذه الآية‬
     ‫كما تذكر كثري من التفا�سري القر�آنية، بحكم �سلوكهم الدموي بقتلهم الأنبياء تارة وبحكم �سلوكهم‬
        ‫الدعائي املقيت �ضد الأنبياء وامل�صلحني تارة �أخرى وهم الأمنوذج الأبرز لعنوان } غي ال َْغ�ضوبِ‬
            ‫َ رْ ِ‌ مْ ُ‬
     ‫علَيهم {. ومي�ضــي على هذا ال�سبـيل من انتهج فكرهم و�سلوكهم، ه ــم امل�صـداق الأو�ضح، و�صـور‬     ‫َ ِْْ‬
                                                      ‫} ا مْل َْغ�ضوبِ علَيهم { ال تتوقف يف كل زمان ومكان.‬
                                                                                       ‫ُ َ ِْْ‬

                                                                                  ‫َ اَ َّ ِّ‬
                                                                            ‫} ول ال�ضالني {‬
     ‫ وبعد ا�ستثناء املغ�ضوب عليهم ممن ال ميكنهم �أن يكونوا على �صراط �سوي وم�ستقيم، هناك الفئة‬
     ‫الأخرى "ال�ضالني"، وما يحويه عنوان ال�ضالل من تخبط يف م�سار الفطرة الإن�سانية، و�ضياع‬
     ‫بو�صلة ال�سري �إىل اهلل من خالل "�ضاللهم" يف �أنف�سهم وللآخرين. وهم املنحرفون من الن�صارى ‬
     ‫كما ذكرت التفا�سري. ممن �ضلوا طريق الهداية والفهم احلقيقي لديانتهم، فيكون الت�شوي�ش‬
                                                                     ‫ّ‬



‫12‬
‫والتزوير مالم�س ًا ل�سلوك �أولئك املنحرفني عن خط ال�سيد امل�سيح (ع). وت�سري م�صاديق } ول‬
 ‫َ اَ‬
                                                              ‫ّ‬                   ‫َّ ِّ‬
                                      ‫ال�ضالني { على كل من �ضل ال�سبيل ومترت�س بالزيف.‬

‫فمعادلة الو�صول �إىل ال�صراط امل�ستقيم. بعد و�صف رب العاملني وو�صفة العمل يف الدنيا عرب‬
‫�إقرار بالعبودية واال�ستعانة به، يكون من خالل الو�صول �إىل نهاية هذه العملية برمتها، ال�صراط‬
‫امل�ستقيم وما بعد ال�صراط امل�ستقيم �إال النهاية املتوقعة يف �آخر �سل�سلة ت�صنيع احلياة، وهي‬
                                                                   ‫ر�ضوان اهلل والفالح الأكرب. ‬
‫هي الفاحتة، فاحتة كل باب للتغيري هي فاحتة حكاية الب�شر كلهم، هي الد�ستور الكوين مل�سرية‬
                                              ‫الإن�سان. هي خارطة الطريق لكل م�سار للتغيري.‬




                                                                                                  ‫22‬
‫‪≥jô£dG áWQÉN‬‬
                             ‫‪á–ÉØdG IQƒ°S‬‬




             ‫�لإنطالقة‬                           ‫معرفة م�سدر �لقوة‬
              ‫(�لب�سملة)‬                         ‫(�سفات �لرحمة)‬

      ‫�لعمل بالعبودية‬                         ‫�عرت�ف للتغيري‬
     ‫(�حلمد و�لربوبية)‬
                                              ‫(عبودية و��ستعانة)‬

       ‫طاقة م�ساعفة‬
      ‫ل�ستمر�ر �لعمل‬                        ‫��ستثناء�ت �لطريق‬
     ‫(مالك ّية يوم �لدين)‬                   ‫(�ملغ�سوب عليهم‬
                                            ‫و�ل�سالني)‬
        ‫�ختيار �لطريق‬
               ‫(�لهد�ية)‬




‫32‬
24

                          
     




25
‫هناك ح�سابات يبدو من ظاهرها غري ما تُبطن، ما يجعل الفكر الب�شري وكثري ًا من التحليل‬
‫املو�سوم باملنطقي �أو الواقعي يقف عاجز ًا عن �إدراكها بعد حني. فتدفع احلكيم للرت ّيث يف �إ�صدار‬
                                               ‫احلكم �أو اال�ستعجال يف البناء على ظاهر الأمر.‬

‫ويف هذا الأمر نكتة لها ربط متني بوجود قوة مهيمنة وحاكمة و�إن مل ندرك اخلط الزمني املتوا�صل‬
‫ل�سري �أي حركة، فمهما بلغ الإن�سان من ب�صرية ومعرفة، يظل عاجز ًا وق�صري نظر عن �إدراك لوحة‬
                                             ‫الكون الكلية �إن اعتمد فقط على قدرته الذاتية.‬

‫مثله كمثل من ينظر �إىل ثقب �صغري وال يرى �إال لون ًا واحد ًا فقط، ويقنع نف�سه ب�أن ال �شيء ُيثري‬
‫الإهتمام وراء الباب، فما هو �إال لون واحد ال غري. وهو ال ُيدرك �أن لوحة جميلة وغاية يف الدقة‬
                              ‫َّ‬
‫وكبرية جد ًا من وراء ذلك الباب، وهو مل ير �سوى جزء منها، ولو �أدرك الأمر لتوقف عن النقد ملا‬
                                                           ‫َ‬
                                                                                                ‫يراه.‬
‫وهذا املفهوم عنوان �أ�سا�سي يف حركة امل�صلحني كما التابعني لهم وامل�ؤمنني، لأنه ي�شكل "اخللطة‬
‫ال�سرية" لل�صرب و�إدراك امل�صلحة بعد حني، ال مبعنى التواكل واال�ست�سالم، بل مبعنى فتح الإدراك‬
                                                             ‫خليارات ال ميكن للعقل الب�شري �إداركها.‬
‫وبالتايل يكون الإن�سان  امل�ؤمن بهذه اخللطة مدرك ًا ملا هو �أبعد من "ثقب باب" احلياة التي يعي�شها.‬
                                                         ‫ُ‬

‫�إنّ خط الإ�صالح الب�شري الذي تخطه ال�سماء لأهل الأر�ض، ي�أتي وفق "كوكتيل" بني الأ�سباب‬
‫الأر�ضية والر�ؤية ال�سماوية، ويت�شكل هذا اخلط امل�ستقيم مع الوقت ويتكثف ليتحول �إىل دائرة هي‬
‫نواة "الثقب الأ�سود ‪ "Black Hole‬اجلاذب �إليه كل ذي فطرة �سليمة يف املجتمع لإعمار الأر�ض‬
‫و�إ�صالحها، �سواء كان من الطبقة احلاكمة �أو من عوام النا�س، وال �أدل على ذلك من اتباع‬
‫الأنبياء من قبل طبقات ذات ثراء �أو جاه �أو منزلة و�سلطة، كامللكة بلقي�س وحتولها لدين نبي اهلل‬
‫�سليمان و�أ�صحاب الكهف وهم يف مرتبة وزراء وقادة ع�سكريني وحتولهم �إىل ر�سالة ال�سيد امل�سيح‬ ‫ُ‬



                                                                                                        ‫62‬
‫وامر�أة فرعون وهي زوجة �أعلى �سلطة يف بالدها �سارت على خطى التوحيد لل�سماء.‬
     ‫وقد تدمج "اخللطة ال�سرية" املتمثلة ب�إدراك امل�صلحة الغيبية يف احلا�صل من �أمور اخلارجة عن‬
     ‫يد التغيري وبني "الثقب الأ�سود"، ليخرج من بني هذا وذاك مناذج تتمتع بح�س عميق فيما ت�ؤمن‬
                                                            ‫بغ�ض النظر عن حميطها الكابت لها.‬

     ‫ومتثل امر�أة فرعون �أمنوذج ًا م�ؤمن ًا من ال�ضفة الأخرى يف املجتمع، من تلك الطبقة احلاكمة،‬
     ‫ممن لها اجلاه واملال وال�سلطة والرفاهية والأمر. ومع كل ذلك فهي تختار مبلأ �إرادتها خط‬
                                              ‫الفطرة املنادي للعدالة واحل�س الإن�ساين ال�سليم.‬

     ‫و�ضمن �أحداث مت�صاعدة ي�صل النبي املوعود �إىل الق�صر الفرعوين، والذي �صدر منه قرار‬
                                                             ‫الت�صفية اجل�سدية لكل مولود جديد.‬
     ‫ وذلك بتدبري من رب ال�سماء لو�صول مو�سى �إىل ق�صر فرعون ودخول امر�أة الأخري على خط‬
                                                                              ‫َّ‬
     ‫احلدث، يجتمع خطا التدبري من ال�سماء واحلركة على الأر�ض، ليخرج من بينهما احلدث املُغيرِّ.‬
                                                                     ‫بقاء مو�سى وثورته بعد حني.‬
                          ‫والآية مو�ضوع التد ّبر حتكي مقطع ًا من م�شهد حدث داخل الق�صر الفرعوين.‬


     ‫}وقالتِ امر�أَت فر‌عون قر‌ت عينْ ل ولك ل تقتلوه عَ�سى �أَن ينفعنا �أَو نتخِ ذه ولدًا وهُ م ل‬
      ‫َ َ َ َ ْ َ َّ َ ُ َ َ َ ْ اَ‬               ‫َ َ َ ْ َ‌ ُ ِ ْ َ ْ َ ُ َّ ُ َ ٍ ِيّ َ َ َ اَ َ ْ ُ ُ ُ‬
                                                                                                      ‫َُْ َ‬
                                                                                           ‫ي�شعرُ‌ون{ الق�ص�ص ٩‬


     ‫خطاب يجري بني امر�أة فرعون م�صر مع زوجها، والبالد تبكي �أطفالها حتت قانون "الطواريء" ‬   ‫ٌ‬
                                                                               ‫الذي �أ�صدره فرعون.‬
     ‫قانون يق�ضي بقتل كل مولود ذكر، وذلك بناء على ر�ؤيا �أتت فرعون يف املنام، وكان تف�سريها‬
     ‫مدعاة للقيام مبثل هذه املجزرة، خوف ًا من والدة "مخُ ّل�ص اليهود"الذي كان فرعون ي�ستعبدهم‬
     ‫وي�سوموهم �سوء العذاب، ويتخذهم وقود ًا لإر�ضاء جربوته ف�ضال عن ت�سيري �أمور البالد الت�شغيلية،‬
                                        ‫ً‬



‫72‬
‫كونهم من الطبقة الكادحة. قرار بالت�صفية الدموية لكل الأطفال الذكران من بني �إ�سرائيل، اعتمد‬
                                                              ‫ٌ‬
‫فيه على "ر�ؤيا"، وهكذا هو حال املتجربين يف الأر�ض وامل�ستعلني غرور ًا وغطر�سة، فبقدر بط�شهم‬
‫لإظهار قوتهم اخلارجية �إال �أنهم يعي�شون �أعلى درجات ال�ضعف والهوان والعجز، فيح�سبون كل‬
‫�صيحة عليهم هم العدو، فاخل�شية من ظهور "�صوت معار�ض" يق�ض م�ضاجعهم، ويقبلون على كل‬
                                            ‫جريرة وخطرية لأجل �إبقاء الأل�سن داخل �أفواهها.‬

‫ومع كل البكاء والنحيب املمتزج ببكاء الأطفال الر�ضع يف �أرجاء كل حي، يكون طلب امر�أة فرعون‬
                                          ‫ُ‬
                                                          ‫مبا�شر ًا وجريئ ًا بتبني طفل لهما!‬
                                                                      ‫ّ‬

                                                                        ‫} وقالتِ امر�أَت فر‌عون {‬
                                                                           ‫َ َ َ ْ َ‌ ُ ِ ْ َ ْ َ‬
‫مل يتم ذكر ا�سمها يف الآية ال�شريفة، بل هي زوجة فرعون الطاغية، والن�سبة لفرعون داللة على‬
‫خط ما كانت عليه من مكانة وهي زوجة طاغية ع�صرها كله. وما لذلك من تبعات و�أزمات و�ضغط‬
                                                                          ‫عليها وهي املر�أة امل�ؤمنة.‬
‫لفة والتوافق وا�ستتمام‬  ‫ومن امللفت ذكر "امر�أة" فرعون ال زوجة، فالزوجة تُذكر يف حال حتقيق الأُ‬
‫معنى الزوجية املعنوية يف جانب الأُلفة واملودة واملادية من جانب الإجناب، وهذا غري متحقق يف‬
‫امر�أة فرعون، لذا مت ذكر "امر�أة" بدال من "زوج". فلم يكن هناك ت�آلف بينهما ال معنوي ًا وال‬
                                                        ‫ً‬
                                                  ‫مادي ًا، ال فكري ًا يف املنهج وال مادي ًا يف الإجناب.‬

                                                                          ‫ُ َّ ُ َ ٍ ِيّ َ َ َ‬
                                                                       ‫} قر‌ت عينْ ل ولك {‬
‫تقدمي قرة العني لها للداللة على مكانتها يف قلب زوجها فرعون، و�أردفت "ولك"، لتُكمل �أُن�سها‬
‫ب�أن�سه وفرحتها بفرحته،  وهذا يدل على الرغبة العارمة اخلفية لفرعون وزوجته يف تبني طفل‬          ‫ُ‬
‫على �أقل تقدير، وهو ذلك ال�صراع بني ر�ؤية فرعون ب�أن يكون هالكه على مولود جديد يخ ّل�ص بني‬
‫�إ�سرائيل منه، وبني �شعوره الأبوي وحنوه على زوجته بتلبية رغبتها، وتلك نكتة �إلهية يف �أن يكون‬
                                                  ‫الفرج حتى من عمق رغبة الطغاة يف �أمر ما.‬




                                                                                                          ‫82‬
‫اَ َ ْ ُ ُ ُ‬
                                                                                        ‫} ل تقتلوه {‬
     ‫يبدو �أن قانون "الطواريء" ال�صادر من فرعون ال ي�ستثني زمان ًا �أو مكان ًا، فالقتل اجلماعي مل‬
     ‫يكن خارج الق�صر الفرعوين فقط، بل �أن القتل ي�شمل كل ولد حتى لو كان يف الق�صر، وكان العقل‬
     ‫اجلمعي حينذاك ق ْتل كل طفل مولود مهما كان و�أي ًا كان، ويدل على الوح�شية املتجذرة يف ذلك‬
                                                                               ‫َ ُ‬
     ‫الوقت دون رحمة لطفل. فكان خطاب اجلمع "ال تقتلوه" داللة على �أن �شركاء القتل للأطفال كُثرُ،‬
                                   ‫من يت�سبب �أو ي�أمر �أو يقتل. كما ورد يف تف�سري امليزان للطباطبائي.‬

                                                                    ‫} عَ�سى �أَن ينفعنا �أَو نتخِ ذه ولدًا{‬
                                                                        ‫َ َ َ َ ْ َ َّ َ ُ َ َ‬
     ‫تفكري براغماتي ظاهري من امر�أة فرعون، ت�ضرب به على الوتر احل�سا�س يف ا�ستجالب امل�صلحة‬
     ‫اخلا�صة، ف�إما �أن يكون هناك نفع �أو اتخاذه ولد ًا، ويف كلتا احلالتني، تكون املنفعة لأهل فرعون ال‬
                                                                                                      ‫غري.‬
     ‫وما تقوله يبدو �إ�شارة �إىل عدم �إجنابهما للأوالد، وتلك اجلذبة من املحبة ملو�سى من امر�أة فرعون‬
     ‫�آية من �آيات الكرامة لنبي اهلل مو�سى، وذلك من خالل قوله تعاىل } و�أَلقيتُ علَيك مبة مني‬
       ‫َ ْ َ ْ َ ْ َ حَ َ َّ ً ِّ ِّ‬
                                                                            ‫ولت�صنع علَى عينِي {. طه ٩٣ ‬
                                                                                          ‫َُِ ْ ََ َ َْ‬
                                                                                                          ‫  ‬
                                                                                        ‫َ ْ اَ َ ْ ُ ُ َ‬
                                                                                      ‫}وهُ م ل ي�شعر‌ون{‬
     ‫تتمثل �آية من �آيات اهلل الكربى يف �أن يدخل مو�سى "الثائر" قلب ق�صر فرعون "اجلائر". ليحت�ضن‬
     ‫ق�صر الطاغية من �سيكون �سبب ًا يف هالكه. لذا عق ّبت الآية بـ "وهم ال ي�شعرون"، وكما يذكر‬
                         ‫تف�سري جممع البيان ب�أنهم ال ي�شعرون �أن هالكهم بني يدي مو�سى (عليه ال�سالم). ‬

     ‫و�أفرد اهلل لهذه املر�أة العظيمة �سبب ًا لتكون و�سيلة �إنقاذ نبيه ومراعاته من داخل عرين الطاغية‬
     ‫نف�سه، ونكتة �أخرى تدل على �أنها لها مكانة يف قلب فرعون ومهابة يف الق�صر، وهي ما زالت تخفي‬
                                                      ‫�إميانها، ف�أي عظمة هذه بني جنبي هذه املر�أة؟‬
     ‫فقد كانت تتحرك لتكون طوق جناة لنبي مهدد بالقتل من �صغره، ُلي�ضاف �إىل تكتمها لإميانها دور‬
     ‫ٌ‬                                                  ‫ُ َّ‬                         ‫ّ‬
     ‫�آخر يت�سم باملخاطرة، وهي حماية هذا الطفل. فكانت طوق جناة لنبي، وامر�أة حتتفظ  بجذوة‬
                                                                         ‫الإميان يف ق�صر من جليد.‬

‫92‬
30

     




31
‫}و�ضر‌ب اللَـه مثل للَذِ ين �آمنوا امر‌�أَت فرعون ِ�إذ قالتْ ر‌ب ابن ل عِ ندَك بيتا ف الجْنة وننِي‬
   ‫َ َ ْ ً يِ َ َّ ِ َ جَ ِّ‬ ‫َ َ َ َ ّ ُ َ َ اً ِّ ّ َ َ ُ ْ َ َ ِ ْ‌ َ ْ َ ْ َ َ َ ِّ ْ ِ يِ‬
                                                            ‫َ ْ َ ْ ِ َّ‬      ‫ِ َ ْ َ َ َ َ ِ ِ َ جَ ِّ‬
                                        ‫مِ ن فرْ‌عون وعمله وننِي مِ ن القوم الظالمِ ِني{ التحرمي ١١‬


‫ميكن ت�شبيه التاريخ كالكرة، والنماذج الإن�سانية املتنوعة هبوط ًا و�صعود ًا، رقيا وانحطاط ًا نتوءات‬
                       ‫ُ‬                                                        ‫ُ‬
                              ‫بارزة على �سطح الكرة. والزمن هو الأر�ضية التي مت�شي عليها الكرة.‬
            ‫لذا تتكرر النماذج وقد تعود للظهور عندما يالم�س "الأمنوذج -النتوء" �أر�ضية الزمن. ‬
‫وتكون تلك النماذج قمم ًا يف الر�سالة واملعنى "�سلب ًا �أو �إيجاب ًا"، قد تتمثل يف موقف حتويه �أمة �أو‬
                                                                                  ‫ميكن �أن يحمله فرد. ‬
‫لذا ت�أخذ هذه الأمثلة طريقها للخلود، فتُذكر يف تواريخ الأمم والديانات، ويتميز القر�آن الكرمي ‬
                                         ‫ّ‬
‫ب�ضربه للأمثلة التي تختزل كمية هائلة من الر�سائل البينة منها وتلك التي حتتاج لت�أمل، وك�أنها‬
        ‫ملف م�ضغوط ‪ ،Compressed file‬حتتاج فتحه لتت�أمله بالرغم من �سال�سة بيانه وو�ضوحه.‬
‫وق�صة امر�أة فرعون بالرغم من �سردها يف مواقع ب�سيطة �إال �أنّ لها من الأهمية بحيث ُي�ضرب بها‬
‫املثل. لأنها ت�شكل فئة من امل�ؤمنني، ممن لهم مكانة دنيوية مميزة، جاه ًا �أو ماال �أو �سلطة بدرجة‬
              ‫ً ُ‬                                                                       ‫ّ‬
                                                                                                   ‫ما.‬
‫ولهذه املر�أة مكانة مميزة كما اعتقد من حيث التحدي  واالختيار وال�صمود وموا�صلة الدرب.‬
                                            ‫ّ‬
‫وهي متثل �أمنوذج ًا ن�سوي ًا ا�شرتك يف االختيار مع �أمنوذج امللكة بلقي�س، �إال �أن الأخرية كانت بيدها‬
      ‫ال�سلطة واحلل والعقد، يف حني �أن امر�أة فرعون كانت ال�سلطة لها من زوجها الفرعون فقط.‬
‫فكان لها مكانة �أنْ ُي�ضرب بها املثل يف القر�آن الكرمي. فاملوقف الر�سايل ال يت�سم باملرونة عندما‬
                                                                   ‫يتحرك وبال�صالبة عندما يثبت.   ‬

                                                                   ‫َ َ َ َ ّ ُ َ َ اً ِّ ّ َ َ ُ‬
                                                            ‫}و�ضر‌ب اللَـه مثل للَذِ ين �آمنوا { ‬
‫�ضرب املثل �أي اتخاذه �أمنوذج ًا على مدار الأزمنة والأمكنة، �أي �أن هذا املثل هو القيا�س  الأبرز‬
                                                                                               ‫ُ‬
                                                                                      ‫ملو�ضوع املثل.‬
‫"للذين �آمنوا"، وهنا نكتة عظيمة يف �أن املثل امل�ضروب به عام للم�ؤمنني وامل�ؤمنات، الرجال‬



                                                                                                          ‫23‬
‫والن�ساء دون تفريق، مما يعني �أن على امل�ؤمن �أن ي�أخذ الأمنوذج كحالة �سلوكية وفكرية و�إميانية‬
                                            ‫والتي ال يحدها جن�س ونوع �صاحب املثل، وهو هنا امر�أة.‬

     ‫"امر�أة فرعون" ن�سبة هذه الإمر�أة لزوجها لي�س ا�ستنقا�ص ًا ل�ش�أنها، �إذ كان بالإمكان ذكر‬
     ‫ا�سمها، �إال �أن لهذا ال�سرد يف الن�سبة معنى جميال ور�سالي ًا، وهو �أن من نتحدث عنه هي امر�أة‬
                                                  ‫ً‬     ‫ً‬
                       ‫فرعون م�صر، بكل ما يعني ذلك من مغريات وتهديدات تعي�شها هذه املر�أة.‬

                                                         ‫َ َ ْ ً يِ َ َّ ِ‬         ‫ْ َ َ َ ِّ ْ ِ يِ‬
                                                       ‫} �إِذ قالتْ ر‌ب ابن ل عِ ندَك بيتا ف الجْنة {‬
     ‫كانت �سرية "�آ�سية بنت مزاحم" زوج فرعون من �أول ما �أخذت نبي اهلل مو�سى وهو �صغري تدل على‬
     ‫نقاء �سريرة هذه املر�أة، والتي ا�ستمرت يف هذا ال�سبيل دون هوادة، فما �إنْ علم فرعون ب�إميانها‬
     ‫والذي ُيقال �أنها �أ�سلمت ملا عاينت معجزة مو�سى بع�صاه �أمام �سحرة فرعون، قام الأخري بنهيها‬
     ‫عن اتخاذ �سبيل الإميان ف�أبت! قمة يف التحدي والت�ضحية والإميان، امر�أة جتري من بني يديها ما‬
                                                                           ‫ْ‬
     ‫تريد وزوجة فرعون دولة قوية وما عليها �إال الإ�شارة ليكون ما تود وت�شتهي، ومع كل ذلك اختارت‬
     ‫�سبيل الإميان والر�سالة وكانت م�ستعدة متام ًا لدفع الثمن الأر�ضي من تعذيب وتَلقى كل ذلك بقلب‬
                     ‫ِّ‬
     ‫م�ؤمن و�صابر. فلما رف�ضت طلب فرعون ب�صرف النظر عن �إميانها، �أوتدَ فرعون يديها ورجليها‬
        ‫َ َ‬
      ‫ب�أربعة �أوتاد و�ألقاها يف ال�شم�س، ثم �أمر �أن ُيلقى عليها �صخرة عظيمة، فلما اقرتب �أجلها }قالتْ‬
     ‫ر‌ب ابن ل عِ ندَك بيتا ف الجْنةِ{، قمة �إميان جت�سدت يف هذه املر�أة العظيمة التي ترى بعني تبتعد‬
                                                 ‫ّ‬                      ‫َ َ ْ ً يِ َ َّ‬        ‫َ ِّ ْ ِ يِ‬
                         ‫عن كل ح�ساب �أر�ضي، فرتى امل�ستقبل بقلب اختار الإميان طريق ًا دون غريه.‬

                                                 ‫َ ْ َ ْ ِ َّ‬      ‫ِ ْ َ ْ َ َ َ َ ِ َ جَ ِّ‬ ‫َ جَ ِّ‬
                                       ‫}وننِي مِ ن فر‌عون وعم ِله وننِي مِ ن القوم الظالِـمِ ني{‬
     ‫يبدو �أن حجم ال�ضيق والأذى الذي تعي�شه يف الق�صر الفرعوين من �سلوكيات وفكر وعقيدة كان‬
     ‫كبري ًا، فتطلب النجاة من �أمرين فرعون ك�شخ�ص وفرعون كعمل، فلقد �أ�صبح م�صدر ًا للظلم‬
     ‫والبط�ش، فكل ما ي�صدر منه �ضد امل�ؤمنني والر�ساليني هو �سيء و�شيطاين، لذا طلبت النجاة من‬
                ‫فرعون يف �شخ�صه ملا يتمتع به من خ�صائ�ص �سلبية معينة، ومن كل "عمل" �صادر منه.‬
     ‫"وجنني من القوم الظاملني"، ما كانت تعي�شه امر�أة فرعون ممتد من فرعون نف�سه �إىل كل‬
                               ‫ٌ‬



‫33‬
‫ما يف �لق�سر، فالعقل �لمعي �لر�سمي �ل�سلبي �آنذ�ك كان م�سيطر ً�، بد�ية من فرعون و�نتهاء‬
                              ‫باأ�سغر عامل يف �لق�سر. و�لظلم فيما هم ما�سون فيه وخائ�سون.‬
‫فلي�ست هناك ر�حة لقلب �أبي�ص و�سط �سو�د يرتبع على �لقلوب، كما �أن �ل�سمعة ل ميكنها �لبقاء‬
‫يف كهف جليدي، وهكذ� كانت �مر�أة فرعون، جذوة �إميان م�ستعلة و�سط كهف جليدي من م�ساعر‬
                                        ‫باردة �فتقدت �لإن�سانية وكل ما ينتمي لل�سمري و�لعقل.‬

‫فكانت �لغ َل َبة �لأر�سية لليد فرعون يف �إطفاء �سمعة "�آ�سية"، �إل �أن �سعلتها ظ ّلت خالدة و�ستكون‬
                                 ‫ّ‬                                                       ‫َ‬
        ‫كذلك، لأن "حر�رتها" �آتية من �سغف �ل�سماء، وهو �ل�سغف �لذي ل يخبو� ول ينتهي �أبد ً�.‬




              ‫�لتاريخ‬                                ‫�لتجارب �لب�سرية‬
                                                                                          ‫�لزمن‬




                                                                                                     ‫43‬
35
36

     




37
‫ال�شريط املُعاد �س َّنة احلياة مع اختالف الظروف والأ�شكال والبيئة، �إال �أن الإن�سان هو نف�سه، ذلك‬
                                                                                 ‫ِ‬
‫الكائن احلاوي ل�صبغة ال�سماء و�أدمي الأر�ض، النور والظالم، اخلري وال�شر، وهو �ساحة ال�صراع‬
‫التي تت�سابق فيها رايتان، راية حق وراية باطل، ومن له الغ َل َبة تكون رايته فوق هامة هذا الإن�سان.‬
                                          ‫َ‬
‫�سلوك الإن�سان هو ثبات يف تغري، �أو كمثل �صلب يف غاز، مكوناته الأ�سا�سية لها �صفاتها وميزاتها،‬
                                     ‫ويكون الإحتكاك مب�سميات جديدة و�أ�شكال جديدة لأمور ثابتة.‬
‫فقابلية الإ�صالح موجودة بالقوة يف الإن�سان، لكن يلزمها �أدوات لتكون فعال بالظاهر �أي�ض ًا. وقد‬
                      ‫ً‬
‫تكون �أدوات البيئة املحيطة مهي�أة متام ًا لإحداث ذلك الإ�صالح، �إال �أن قابلية ذلك تكون مفقودة‬
                                            ‫ً‬
‫يف ذات الإن�سان لتغليبه كفة �إ�شباع الذات املحدودة بدال من امل�ضي يف كفة الرقي بها. وميكن �أن‬
                        ‫يحدث ذلك حتى مع من هو �أقرب �إىل منبع الإ�صالح ونا�شره، وهم الأنبياء.‬
‫فالإ�صالح الذاتي والهداية لي�ست معادالت ريا�ضية بحتة، فكون امر�أة زوجة نبي ال ي�ستلزم �أن‬
                                                               ‫تكون هي �أي�ض ًا يف م�سرية الإ�صالح.‬
                                                         ‫وال �أدل على ذلك من هذه الآية الكرمية.. ‬

‫} �ضر‌ب اللَـه مثل للَذِ ين كفر‌وا امر�أَت نوح وامر‌�أَت لوط كانتا تْتَ عبدين مِ نْ عِ بادنا �صالينْ‬
‫َ ِ َ َ حِ َ ِ‬         ‫َ َ َ ّ ُ َ َ اً ِّ ّ َ َ َ ُ ْ َ‌ َ ُ ٍ َ ْ َ َ ُ ٍ َ َ َ حَ َ ْ َ ْ ِ‬
                                ‫َ َ َ َ َ َ ْ ُ ْ ِ َ َ ْ ُ َ َ ّ ِ َ ْ ً َ َ ُ اَ َّ َ َ َ‬
           ‫فخانتاهُ ما فلَم يغنيا عنهما مِ ن اللَـه �شيئا وقِيل ادْخل النارَ‌ مع الدّاخِ لِني{ التحرمي ٠١‬
‫م�ضرب املثل هنا يف الأمنوذج ال�سلبي للذين كفروا، من خالل ال�سلوك والعقلية التي اتبعتها‬
‫امر�أتني لنبيني كرميني، وهما نوح ولوط، وما مييز بيئة هذين النبيني هو ال�صراع االجتماعي‬
‫ال�سلبي جد ًا وال�شاذ، ففي جمتمع نوح �صوتٌ غريب عن الر�سالة وطول زمن امتد ملئات ال�سنني يف‬
                                                                                                  ‫الدعوة.‬
‫ويف جمتمع لوط قفزة �سلوكية �شاذة جتاه الرجال، والقاريء ل�سرية هذين املجتمعني، يتوقع �أن‬
‫تكون زوجتي هذين النبيني معهما وب�شدة، فنوح مع طول الر�سالة وزوجته ت�شهد ذلك ب�أم عينها،‬
‫من املتوقع �أن تكون معه وت�سانده. وعند نبي اهلل لوط كذلك، فالقوم اجتهوا نحو �شذوذ غريب‬
‫يعترب الأول من نوعه يف ع�صرهم، مما كان متوقع ًا من زوجته �أن تكون مع زوجها النبي لإرجاع‬
                                                               ‫الفطرة حلالها يف املجتمع عرب ر�سالته.‬
‫ومع ذلك كله، ف�إن املجتمع يف زمن هذين النبيني قد متكن من جر زوجتي النبيني لتكونا مع العقل‬
                                    ‫ّ‬



                                                                                                            ‫83‬
‫اجلمعي العام ال�سائر يف اجتاه خمالف خلط الإ�صالح النبوي.‬

     ‫} كانتا تْتَ عبدين مِ نْ عِ بادنا �صالينْ {، بالرغم من كون الزوجتني "حتت" والية زوجيهما‬
                                                             ‫َ ِ َ َ حِ َ ِ‬       ‫َ َ َ حَ َ ْ َ ْ ِ‬
     ‫ال�شرعية، �إال �أن ذوبانهما يف املجتمع ال�سلبي �آنذاك كان �أكرث من الإندماج مع البيت الر�سايل‬
     ‫الذي تع�شنَ فيه. فاخللل يف الإلتزام باخلط الر�سايل ي�أتي من غرفة القلب قبل �أن ي�أتي من غرفة‬
     ‫البيت. فلي�ست هناك "ح�صانة دبلوما�سية" مطلقة من الزَ لل �أينما كان الفرد ولو حتت ظل بيت‬
                                                                                                     ‫نبوي.‬
                                      ‫ً‬
     ‫"فخانتاهما"،  �أي خانتا الر�سالة لقربهما من م�صدرهما �أوال وخانتا الإميان بتلك الر�سالة‬
                                                                                                     ‫ثاني ًا.‬
     ‫فكانت امر�أة نوح تقول للنا�س �أن زوجها النبي جمنون، و�إذا �آمن �أحد بنوح �أخربت اجلبابرة من‬
                                                 ‫قومه، و�أما امر�أة لوط فكانت تدل قومه على �أ�ضيافه. ‬
     ‫واخليانة ت�أتي عند وجود �أمانة يف يد الفرد، وهما كذلك، فكونهما زوجتا نبيني ولديهما ر�سالة،‬
     ‫وعدم م�ساندتهما، بل الت�آمر عليهما ميثل خيانة للر�سالة، وذكر �صفتهما بامر�أتي نوح ولوط، دليل‬
     ‫على عظم هذه اخليانة للأمانة التي ت�أتي من و�سط بيت املبلغ والر�سايل. وبنف�س النكتة ال�سابقة‬
           ‫املذكورة عن "امر�أة" فرعون فكلتاهما مل تتحقق معنى الزوجية لذا مت و�صفها بـ "امر�أتي".‬
     ‫}فلم يغنيا عنهما من اهلل �شيئ ًا{: د�ستور �سماوي وا�ضح من �أول اخلليقة متمثل يف قابيل، وهو �أن‬
                          ‫ٌ‬
     ‫الن�سبة الدموية �أو الأ�سرية ال تغني �أو ت�سمن من جوع عند العدول عن خط الر�سالة. فاملهم اتباع‬
     ‫الر�سالة ال ن�سب ال�شخ�ص عائلي ًا �إىل �صاحبها، وتلك اللفتة ال�سماوية العامة تتمثل يف �أن الر�سالة‬
     ‫يجب �أن تُتبع بغ�ض النظر عن الن�سبة واملنزلة العائلية �أو االجتماعية، وبذا تتجرد الر�سالة عن كل‬
               ‫رابط �أر�ضي قد ي�ؤثر يف خط �سريها، وهذا هو قوة منهج الأنبياء يف ر�ساالتهم املتعددة.‬
     ‫"وقيل ادخال النار مع الداخلني"، والنتيجة لتلك اخليانة، هو الدخول يف النار مع كل الذين‬
     ‫�سيدخلونها، ولي�س لهنّ �أي حبوة �أو "وا�سطة"  تفيد يف التخفيف من عذاب النار، والتي متثل‬
     ‫احلالة امللكوتية لكل القلوب البعيدة عن اهلل، فيكون بعدها عن خط ال�سماء اقرتاب ًا �أكرث لنار كل‬
                                                                                           ‫القيم ال�سلبية.‬
     ‫وذلك متثيل حقيقي للحديث الوارد عن الإمام علي بن احل�سني بن علي بن �أبي طالب عليه‬


‫93‬
‫ال�سالم: "�إن اهلل خلق اجلنة ملن �أطاعه ولو كان عبداً حب�شياً وخلق النار ملن ع�صاه ولو كان‬
                                                                                ‫حراً قر�شياً".‬
                                                       ‫د�ستور ثابت، ومنهج ال ا�ستثناءات فيه.‬
                                     ‫ّ‬
              ‫ُي�سقط كل االعتبارات االجتماعية والأ�سرية وكل �شيءٍ �إال من العمل يف حد ذاته..‬
                ‫وهذا هو �سبيل القر�آن لر�سم مكانة الإن�سان يف احلياة، املعيار هو العمل فقط..‬




                                                                                                 ‫04‬
41
42

     
               




43
‫َ ْ َ َ مْ اَ ِ َ ُ َ َ ْ مَ ُ َّ ّ َ ْ َ َ َ َ َّ َ َ ْ َ َ َ َ ِ ْ َ َ‬
‫} و�إِذ قالتِ الَلئكة يا مر‌ي �إِن اللَـه ا�صطفاكِ وطهر‌كِ وا�صطفاكِ علَى نِ�ساء العا مَلِني (24) يا‬
 ‫َ‬
                                                     ‫َ مَ ُ ْ ُ ِ ِّ َ ْ ُ َ َ َ َ ّ ِ ِ َ‬
                                   ‫مرْ‌ي اقنتِي لرَ‌بكِ وا�سجدِ ي وارْ‌كعِي مع الرَ‌اكعني { �آل عمران 24,34‬


 ‫يِ‬      ‫ُ َ ْ ُ َ ْ مَ َ َ‬              ‫ْ َ َ اَ ِ َ ُ َ َ ْ مَ ُ َّ ّ َ ُ َ ِّ ُ َ َ ٍ ِّ ْ ُ ْ ُ ُ‬
‫} �إِذ قالتِ ا مْلَلئكة يا مر‌ي �إِن اللَـه يب�شر‌كِ ِبك ِلمة منه ا�سمه ا مْلَ�سِ يح عِ ي�سى ابن مر‌ي وجِ يهًا ف‬
                                                                               ‫ُّ ْ َ َ ْ َ‌ ِ َ َ مْ َ ّ ِ َ‬
                                                              ‫الدنيا والآخِ رة ومِ ن الُقرَ‌بني  { �آل عمران 54‬


                                         ‫ { �آل عمران 64‬   ‫َ َ اً َ َ َّ حِ ِ َ‬
                                                           ‫} ويك ِّلم النا�س ف ا مْلَهْدِ وكهْل ومِ ن ال�صالني‬
                                                                                            ‫َ ُ َ ُ َّ َ يِ‬

‫} قالتْ ر‌ب �أَنى يكون ل ولد ول ي�س�سنِي ب�شر قال كذلِكِ اللَـه يخلق مَا ي�شاء �إِذا ق�ضى َ�أمر‌ا‬
  ‫ُّ َُُْ ََ ُ َ َ َ ًْ‬                       ‫َ َ َ ِّ َّ َ ُ ُ يِ َ َ ٌ َ مَ ْ مَ ْ َ ْ َ َ ٌ‌ َ َ َ‬
                                                                                 ‫َ مَّ َ َ ُ ُ َ ُ ُ َ َ ُ ُ‬
                                                               ‫ف�إِنا يقول له كن فيكون  { �آل عمران 74‬


‫�إفراد �سورة كاملة با�سم ال�سيدة مرمي املقد�سة هذه منزلة للفت النظر لهذه املر�أة و�سريتها ويف‬
                           ‫ٌ‬              ‫ُ ٌ‬
‫ذلك معنى عظيم يف �ضرب املثال للمر�أة يف الكون، طهر واختيار و�صرب و�شجاعة وموا�صلة ر�سالة‬
                                                                                      ‫ً‬
                                         ‫ون�صر م�ؤزر، ذلك خط مرمي عليها ال�سالم منذ �صغرها.‬
                                                                                          ‫ٌ‬
‫لقد مت ذكر الإ�صطفاء مرتني يف الآية الكرمية، وكان ا�ستجابة لدعوة �أمها ويف هذا الإ�صطفاء‬
‫داللة بينة يف القر�آن الكرمي �أنّ التكامل الب�شري ال يقت�صر على الذكر دون الأنثى، �إذ كون التكامل‬
     ‫يتحرك مبعزل عن جن�س الإن�سان، فال نقي�صة لأنثى لكونها �أنثى، وال ميزة لذكر كونه ذكر ًا.‬

‫واملنظور القر�آين لكال اجلن�سني يتحرك من معيار العمل والإميان دون النظر �إىل جن�س الإن�سان‬
‫امل�ؤمن، وبالتايل تكون م�سرية التكامل من�صفة للذكر والأنثـى على حد �سواء، بعيد ًا عن معايري‬
                                                     ‫ُ‬
‫التقييم الأخرى التي يغذيها الع ــرف تارة �أو مدار�س فكرية متنوعة تارة �أخرى، وذلك يف‬
                                                            ‫ُ‬
‫حماولة تف�ضيل �أحدهما على الآخـ ــر. ومع وجود �أي تف�ضيل جلن�س يهتــز التوازن يف املجتمع،‬
‫وتكون الهزّات النف�سية واالجتماعية وا�ضحة وتن�سحب على ميادين �أخرى، كال�سيا�سة واالقت�صاد‬
                                                                        ‫والإعالم والثقافة.‬



                                                                                                                   ‫44‬
‫ّ‬
     ‫فو�ضع اجلن�سني على قدر امل�ساواة يف �شروط حت�صيل ر�صيد الإميان والرتقي يف التكامل هو عني‬
                                                             ‫ٍّ‬
                                 ‫الإن�صاف و�إظهار القوة الفطرية لكل منهما دون متييز �أو تف�ضيل.‬

                                             ‫َ َ ْ مَ ُ ْ ُ ِ َ َ ْ ُ َ ْ‌ َ َ َ َّ ِ ِ َ‬
                                           ‫} يا مر‌ي اقنتِي لر‌ ِّبكِ وا�سجدِ ي واركعِي مع الر‌اكعني {‬
     ‫ دعوة للعبادة واالبتهال هلل، ليكون كل ذلك معين ًا لها يف ظل ال�ضغط املجتمعي الرهيب فيما بعد.‬
                                                                ‫ً‬
     ‫ذلك التوا�صل ال�سماوي �سيكون كفيال بتحمل ال�ضغط الأر�ضي عليها. و�صاحب كل ر�سالة ومبد�أ له‬
     ‫وقته اخلا�ص الذي ي�ستمد من خالله طاقته التي تدفعه للم�ضي قدُم ًا يف �سبيل ر�سالته، ذلك الوقت‬
                                       ‫ُ‬
     ‫هو عندما يت�صل بال�سماء. فا�ستنزاف الطاقة من العنا�صر الأر�ضية املحيطة بالفرد الر�سايل‬
                                                          ‫ي�ستلزمه �إعادة �شحنها من م�صدر �سماوي.‬

                                                            ‫َ ِ ُ ْ ْ َ َ ْ ِ ِ ْ َ َ مَ َ ُ ْ َ ً‬
                                     ‫قال تعاىل: } وبكفرِ‌هِ م وقولهم علَى مرْ‌ي بهتانا عَظِ يما{ الن�ساء 651‬
                                                   ‫ً‬
     ‫حرب نف�سية كبرية يتم �شنها على �أطهر امر�أة يف ع�صرها، فيذكر القر�آن "بهتان ًا" ولي�س كذب ًا‬
     ‫فقط، والبهتان �أعظم درجة من الكذب يف تلفيق التهم ون�سج �أمور ال �أ�سا�س لها وتدخل يف دائرة‬
                                                                         ‫القذف والطعن يف العر�ض.‬

     ‫ولعظم منزلة مرمي، ذكر القر�آن } بهتانا عَظِ يما { والبهتان يكفي للداللة على عظم الأمر �إال �أن‬
                                                     ‫ً‬        ‫َُْ ً‬
                                             ‫و�صفه (عظيم) له داللة على خطر ما مت ذكره يف حقها.‬
                                                                                       ‫ٌ‬

     ‫فقد جتاوز اليهود كل احلدود، فمن قتلهم للأنبياء وا�ستهزاء مبنزلتهم العظيمة �إىل رمي مرمي‬
     ‫العذراء بتهمة �شنيعة و ُبهتان عظيم. فمن يقتل الأنبياء ال يرعوي عن �سوق التُهم والتعدي على‬
           ‫ّ‬
     ‫حرم امر�أة طاهرة كمرمي املقد�سة. وذلك ديدن من ي�سلك �سبيل الإنكار واجلحود وتغييب العقل‬ ‫ُُ‬
                                                             ‫ّ‬
                             ‫بغطاء من الدموية والوح�شية والتهكم وال�صالفة يف التعامل مع الآخر.‬

     ‫ قال تعاىل:} واذكر‌ ف الكتابِ مر‌ي �إِذ انتبذتْ مِ نْ �أَهْ ِلهَا مكانا �شر‌قيا(61) فاتخذتْ مِ ن دُونهم‬
     ‫ِِْ‬            ‫َ َّ َ َ‬      ‫َ َ ً َ ْ ِ ًّ‬                ‫َ ْ ُ ْ يِ ْ ِ َ َ ْ مَ َ ِ َ َ َ‬
     ‫حِ جابا ف�أَر‌�س ْلنا �إِليهَا ر‌وحنا فتمثل لهَا ب�شر‌ا �سويا (71) قالتْ �إِن �أَعُوذ بِالر‌حمـن مِ نك �إِن كنتَ‬
         ‫ُ َّ ْ َ ِ َ ُ‬                   ‫َ َ ِيّ‬        ‫َ ً َ ْ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َ َ ّ َ َ َ َ َ ً َ ِ ًّ‬



‫54‬
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza

Weitere ähnliche Inhalte

Was ist angesagt?

مقتطفات من الكُتب4
مقتطفات من الكُتب4مقتطفات من الكُتب4
مقتطفات من الكُتب4Mohammed Algarni
 
رسائل ..إلى الروضة الشريفة
رسائل ..إلى الروضة الشريفةرسائل ..إلى الروضة الشريفة
رسائل ..إلى الروضة الشريفةHamid Benkhibech
 
تجار الدين ودعاة الفتنة
تجار الدين ودعاة الفتنة تجار الدين ودعاة الفتنة
تجار الدين ودعاة الفتنة chamithami
 
نشرة جمعية العمل الاسلامي
نشرة جمعية العمل الاسلامي نشرة جمعية العمل الاسلامي
نشرة جمعية العمل الاسلامي Amal Society
 
القول الأصدق في بيان ما خالف فيه الأصبهاني الأزرق
القول الأصدق في بيان ما خالف فيه الأصبهاني الأزرقالقول الأصدق في بيان ما خالف فيه الأصبهاني الأزرق
القول الأصدق في بيان ما خالف فيه الأصبهاني الأزرقسمير بسيوني
 
خمس دقائق وحسب
خمس دقائق وحسبخمس دقائق وحسب
خمس دقائق وحسبShamKarama
 
آية السيف و التحريض على العنف
آية السيف و التحريض على العنفآية السيف و التحريض على العنف
آية السيف و التحريض على العنفchamithami
 
متفائلون رحلوا زهورا
متفائلون رحلوا زهورامتفائلون رحلوا زهورا
متفائلون رحلوا زهوراguestbfd7302
 
مغنى اللبيب عن كتب الاعاريب / Mughnī al-labīb by ibn hishām
مغنى اللبيب عن كتب الاعاريب /  Mughnī al-labīb by ibn hishāmمغنى اللبيب عن كتب الاعاريب /  Mughnī al-labīb by ibn hishām
مغنى اللبيب عن كتب الاعاريب / Mughnī al-labīb by ibn hishāmMansour1
 
الاسرار الربانية في النفس البشرية
الاسرار الربانية في النفس البشرية الاسرار الربانية في النفس البشرية
الاسرار الربانية في النفس البشرية chamithami
 
خريطة ذهنية للقران الكريم
خريطة ذهنية للقران الكريمخريطة ذهنية للقران الكريم
خريطة ذهنية للقران الكريمAssoib Rachid
 
كتاب إعلام القارئ والسماع بتحريرات الإمام نافع
كتاب إعلام القارئ والسماع بتحريرات الإمام نافع كتاب إعلام القارئ والسماع بتحريرات الإمام نافع
كتاب إعلام القارئ والسماع بتحريرات الإمام نافع سمير بسيوني
 
التمهيد في علم التجويد
التمهيد في علم التجويدالتمهيد في علم التجويد
التمهيد في علم التجويدسمير بسيوني
 

Was ist angesagt? (18)

مقتطفات من الكُتب4
مقتطفات من الكُتب4مقتطفات من الكُتب4
مقتطفات من الكُتب4
 
النبر
النبرالنبر
النبر
 
رسائل ..إلى الروضة الشريفة
رسائل ..إلى الروضة الشريفةرسائل ..إلى الروضة الشريفة
رسائل ..إلى الروضة الشريفة
 
تجار الدين ودعاة الفتنة
تجار الدين ودعاة الفتنة تجار الدين ودعاة الفتنة
تجار الدين ودعاة الفتنة
 
نشرة جمعية العمل الاسلامي
نشرة جمعية العمل الاسلامي نشرة جمعية العمل الاسلامي
نشرة جمعية العمل الاسلامي
 
القول الأصدق في بيان ما خالف فيه الأصبهاني الأزرق
القول الأصدق في بيان ما خالف فيه الأصبهاني الأزرقالقول الأصدق في بيان ما خالف فيه الأصبهاني الأزرق
القول الأصدق في بيان ما خالف فيه الأصبهاني الأزرق
 
خمس دقائق وحسب
خمس دقائق وحسبخمس دقائق وحسب
خمس دقائق وحسب
 
آية السيف و التحريض على العنف
آية السيف و التحريض على العنفآية السيف و التحريض على العنف
آية السيف و التحريض على العنف
 
متفائلون رحلوا زهورا
متفائلون رحلوا زهورامتفائلون رحلوا زهورا
متفائلون رحلوا زهورا
 
تقريظ صريح النص
تقريظ صريح النص تقريظ صريح النص
تقريظ صريح النص
 
مغنى اللبيب عن كتب الاعاريب / Mughnī al-labīb by ibn hishām
مغنى اللبيب عن كتب الاعاريب /  Mughnī al-labīb by ibn hishāmمغنى اللبيب عن كتب الاعاريب /  Mughnī al-labīb by ibn hishām
مغنى اللبيب عن كتب الاعاريب / Mughnī al-labīb by ibn hishām
 
الاسرار الربانية في النفس البشرية
الاسرار الربانية في النفس البشرية الاسرار الربانية في النفس البشرية
الاسرار الربانية في النفس البشرية
 
خريطة ذهنية للقران الكريم
خريطة ذهنية للقران الكريمخريطة ذهنية للقران الكريم
خريطة ذهنية للقران الكريم
 
8740
87408740
8740
 
أذكار اليوم والليلة
أذكار اليوم والليلةأذكار اليوم والليلة
أذكار اليوم والليلة
 
كتاب إعلام القارئ والسماع بتحريرات الإمام نافع
كتاب إعلام القارئ والسماع بتحريرات الإمام نافع كتاب إعلام القارئ والسماع بتحريرات الإمام نافع
كتاب إعلام القارئ والسماع بتحريرات الإمام نافع
 
20 قاعدة في استثمار الأخطاء
20 قاعدة في استثمار الأخطاء20 قاعدة في استثمار الأخطاء
20 قاعدة في استثمار الأخطاء
 
التمهيد في علم التجويد
التمهيد في علم التجويدالتمهيد في علم التجويد
التمهيد في علم التجويد
 

Andere mochten auch

Andere mochten auch (8)

Le sport
Le sportLe sport
Le sport
 
Reading presentation
Reading presentationReading presentation
Reading presentation
 
IE Presentation on the Benefits of Reading
IE Presentation on the Benefits of ReadingIE Presentation on the Benefits of Reading
IE Presentation on the Benefits of Reading
 
Why fast foods are bad for you?
Why fast foods are bad for you?Why fast foods are bad for you?
Why fast foods are bad for you?
 
Chocolate
ChocolateChocolate
Chocolate
 
Fast Food PPT
Fast Food PPTFast Food PPT
Fast Food PPT
 
Fast food
Fast foodFast food
Fast food
 
Presentation fast food
Presentation fast foodPresentation fast food
Presentation fast food
 

Ähnlich wie The holy origami by jaafar hamza

بحوث المؤتمر العالمي العاشر للاعجاز العلمي في القرآن والسنة ج 3
بحوث المؤتمر العالمي العاشر للاعجاز العلمي في القرآن والسنة ج 3 بحوث المؤتمر العالمي العاشر للاعجاز العلمي في القرآن والسنة ج 3
بحوث المؤتمر العالمي العاشر للاعجاز العلمي في القرآن والسنة ج 3 Sun Rise
 
الموقظه في رؤية الرسول في اليقظه الالوسي
الموقظه  في رؤية الرسول في اليقظه  الالوسيالموقظه  في رؤية الرسول في اليقظه  الالوسي
الموقظه في رؤية الرسول في اليقظه الالوسيغايتي الجنة
 
فلسفة الخلق الانسانى
فلسفة الخلق الانسانىفلسفة الخلق الانسانى
فلسفة الخلق الانسانىguest5a08f5b
 
هذا بيان للناس
هذا بيان للناسهذا بيان للناس
هذا بيان للناسWisam Saif
 
25 الأخيرة
25 الأخيرة25 الأخيرة
25 الأخيرةaraseel
 
أخلاق المؤمن / عمرو خالد
أخلاق المؤمن / عمرو خالدأخلاق المؤمن / عمرو خالد
أخلاق المؤمن / عمرو خالدSun Rise
 
خريطة ذهنية للقران الكريم
خريطة ذهنية للقران الكريمخريطة ذهنية للقران الكريم
خريطة ذهنية للقران الكريمHammad Alhajri
 
الخرائط الذهنية لسور القرآن الكريم‏
الخرائط الذهنية لسور القرآن الكريم‏الخرائط الذهنية لسور القرآن الكريم‏
الخرائط الذهنية لسور القرآن الكريم‏Mohammed Algarni
 
خرائط ذهنيه لسور الفرآن
خرائط ذهنيه لسور الفرآنخرائط ذهنيه لسور الفرآن
خرائط ذهنيه لسور الفرآنWatani DZ
 
خريطة ذهنية للقران الكريم
خريطة ذهنية للقران الكريمخريطة ذهنية للقران الكريم
خريطة ذهنية للقران الكريمAssoib Rachid
 
فض الاشتباك مع العلمانية
فض الاشتباك مع العلمانيةفض الاشتباك مع العلمانية
فض الاشتباك مع العلمانيةAhmad Alkhouly
 
شرح سورة الكهف
شرح سورة الكهفشرح سورة الكهف
شرح سورة الكهفmannan970
 
الخطر اليهودي بروتوكولات حكماء صهيون
الخطر اليهودي  بروتوكولات حكماء صهيونالخطر اليهودي  بروتوكولات حكماء صهيون
الخطر اليهودي بروتوكولات حكماء صهيونbasheer777
 

Ähnlich wie The holy origami by jaafar hamza (20)

بحوث المؤتمر العالمي العاشر للاعجاز العلمي في القرآن والسنة ج 3
بحوث المؤتمر العالمي العاشر للاعجاز العلمي في القرآن والسنة ج 3 بحوث المؤتمر العالمي العاشر للاعجاز العلمي في القرآن والسنة ج 3
بحوث المؤتمر العالمي العاشر للاعجاز العلمي في القرآن والسنة ج 3
 
الموقظه في رؤية الرسول في اليقظه الالوسي
الموقظه  في رؤية الرسول في اليقظه  الالوسيالموقظه  في رؤية الرسول في اليقظه  الالوسي
الموقظه في رؤية الرسول في اليقظه الالوسي
 
سوره الكهف
سوره الكهفسوره الكهف
سوره الكهف
 
سوره الكهف
سوره الكهفسوره الكهف
سوره الكهف
 
سوره الكهف
سوره الكهفسوره الكهف
سوره الكهف
 
1
11
1
 
فلسفة الخلق الانسانى
فلسفة الخلق الانسانىفلسفة الخلق الانسانى
فلسفة الخلق الانسانى
 
هذا بيان للناس
هذا بيان للناسهذا بيان للناس
هذا بيان للناس
 
25 الأخيرة
25 الأخيرة25 الأخيرة
25 الأخيرة
 
أخلاق المؤمن / عمرو خالد
أخلاق المؤمن / عمرو خالدأخلاق المؤمن / عمرو خالد
أخلاق المؤمن / عمرو خالد
 
Islm 6 g p1
Islm 6 g p1Islm 6 g p1
Islm 6 g p1
 
خريطة ذهنية للقران الكريم
خريطة ذهنية للقران الكريمخريطة ذهنية للقران الكريم
خريطة ذهنية للقران الكريم
 
الخرائط الذهنية لسور القرآن الكريم‏
الخرائط الذهنية لسور القرآن الكريم‏الخرائط الذهنية لسور القرآن الكريم‏
الخرائط الذهنية لسور القرآن الكريم‏
 
خرائط ذهنيه لسور الفرآن
خرائط ذهنيه لسور الفرآنخرائط ذهنيه لسور الفرآن
خرائط ذهنيه لسور الفرآن
 
خريطة ذهنية للقران الكريم
خريطة ذهنية للقران الكريمخريطة ذهنية للقران الكريم
خريطة ذهنية للقران الكريم
 
فض الاشتباك مع العلمانية
فض الاشتباك مع العلمانيةفض الاشتباك مع العلمانية
فض الاشتباك مع العلمانية
 
التفكر الايماني
 التفكر الايماني التفكر الايماني
التفكر الايماني
 
شرح سورة الكهف
شرح سورة الكهفشرح سورة الكهف
شرح سورة الكهف
 
سورة الكهف
سورة الكهفسورة الكهف
سورة الكهف
 
الخطر اليهودي بروتوكولات حكماء صهيون
الخطر اليهودي  بروتوكولات حكماء صهيونالخطر اليهودي  بروتوكولات حكماء صهيون
الخطر اليهودي بروتوكولات حكماء صهيون
 

Mehr von BOXOBIA

مؤتمر حاضنات ومسرعات الأعمال الخليجي الثالث .. 18 نوفمبر 2020
مؤتمر حاضنات ومسرعات الأعمال الخليجي الثالث .. 18 نوفمبر 2020مؤتمر حاضنات ومسرعات الأعمال الخليجي الثالث .. 18 نوفمبر 2020
مؤتمر حاضنات ومسرعات الأعمال الخليجي الثالث .. 18 نوفمبر 2020BOXOBIA
 
Innovate to motivate by jaafar hamza
Innovate to motivate by jaafar hamzaInnovate to motivate by jaafar hamza
Innovate to motivate by jaafar hamzaBOXOBIA
 
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamzaThe holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamzaBOXOBIA
 
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamzaThe holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamzaBOXOBIA
 
Cultural invasion
Cultural invasion Cultural invasion
Cultural invasion BOXOBIA
 
مرأة أم امرأة؟ تصنيع الهوية للمرأة المسلمة في ظل العولمةWomen or Mirror? How ...
مرأة أم امرأة؟ تصنيع الهوية للمرأة المسلمة في ظل العولمةWomen or Mirror? How ...مرأة أم امرأة؟ تصنيع الهوية للمرأة المسلمة في ظل العولمةWomen or Mirror? How ...
مرأة أم امرأة؟ تصنيع الهوية للمرأة المسلمة في ظل العولمةWomen or Mirror? How ...BOXOBIA
 
From screen to heart. How we convert the islamic Video clips to Brand?
From screen to heart. How we convert the islamic Video clips to Brand?From screen to heart. How we convert the islamic Video clips to Brand?
From screen to heart. How we convert the islamic Video clips to Brand?BOXOBIA
 
Brain juice
Brain juiceBrain juice
Brain juiceBOXOBIA
 

Mehr von BOXOBIA (8)

مؤتمر حاضنات ومسرعات الأعمال الخليجي الثالث .. 18 نوفمبر 2020
مؤتمر حاضنات ومسرعات الأعمال الخليجي الثالث .. 18 نوفمبر 2020مؤتمر حاضنات ومسرعات الأعمال الخليجي الثالث .. 18 نوفمبر 2020
مؤتمر حاضنات ومسرعات الأعمال الخليجي الثالث .. 18 نوفمبر 2020
 
Innovate to motivate by jaafar hamza
Innovate to motivate by jaafar hamzaInnovate to motivate by jaafar hamza
Innovate to motivate by jaafar hamza
 
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamzaThe holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
 
The holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamzaThe holy origami by jaafar hamza
The holy origami by jaafar hamza
 
Cultural invasion
Cultural invasion Cultural invasion
Cultural invasion
 
مرأة أم امرأة؟ تصنيع الهوية للمرأة المسلمة في ظل العولمةWomen or Mirror? How ...
مرأة أم امرأة؟ تصنيع الهوية للمرأة المسلمة في ظل العولمةWomen or Mirror? How ...مرأة أم امرأة؟ تصنيع الهوية للمرأة المسلمة في ظل العولمةWomen or Mirror? How ...
مرأة أم امرأة؟ تصنيع الهوية للمرأة المسلمة في ظل العولمةWomen or Mirror? How ...
 
From screen to heart. How we convert the islamic Video clips to Brand?
From screen to heart. How we convert the islamic Video clips to Brand?From screen to heart. How we convert the islamic Video clips to Brand?
From screen to heart. How we convert the islamic Video clips to Brand?
 
Brain juice
Brain juiceBrain juice
Brain juice
 

The holy origami by jaafar hamza

  • 3. ‫ت�سميم و�خر�ج: ح�سن �أحمد‬ ‫تدقيق لغوي: مرت�سى ح�سن �لغريب - مريز� �لربي‬ ‫3341 ‪Ω 2012 - ` g‬‬
  • 5. ‫‪‬‬ ‫�إىل �لإن�سان �ملتحرر من "�سندوقه �لأ�سود" لينطلق يف ميادين‬ ‫�حلياة ِب َنف�ص جديد كل يوم..‬ ‫َ ٍ‬ ‫�إىل �لإن�سان �مل�سلم �ملالك لأعظم طاقة فكرية ومنهج حياة ف�س َلى‬ ‫جُ‬ ‫مر�سومة يف كتاب �سماوي خالد.‬ ‫�إىل من ميتلك "�خلارطة �لينية" بحياة دنيا و�آخرة..‬ ‫�أقدم هذه "�لنافذة �ل�سغرية" على تلك �خلارطة �لعظمى...‬ ‫ّ‬ ‫جعفر حمزة - مملكة �لبحرين‬ ‫�سهر رم�سان �ملبارك ٣٣4١هـ ‪20١2 ‬م‬
  • 6.    09  GPS 13    25   31   37   43 
  • 7.   51  59    67   73  81  87   93
  • 8.  101   "" 107     113   121    127  133   138
  • 9. ‫‪‬‬ ‫‪...¬«pq Wh ¥QƒdG ™æ°U ÚH‬‬ ‫حترير �لإن�سان من قيود �لفكر �ملرت��سة بني يديه، و�لتي ت�سكل �أطر ً� لفهم ذ�ته وما حوله، نتيجة‬ ‫ّ جُ‬ ‫َّ‬ ‫جُ‬ ‫عرف �أو عقل جمعي منذ ولدته، كل ذلك يجعله يف "�سندوق �أ�سود" ي�سعب عليه �خلروج منه، �إل‬ ‫جُ‬ ‫يف حالة و�حدة فقط، وهي "�إذكاء �لفطرة" و�إطالقها بحريتها �لطبيعية لتبحث وت�ساأل مثل �آدم ل‬ ‫يتوقف حتى جُي�سبع َنهم �ملعرفة و�ل�سوؤ�ل عنده. �سوؤ�ل �لفطرة و�لعفوية �لد�فع لت�سكيل م�سار ه�سم‬ ‫َ‬ ‫معنى �لوجود و�لعمل على توظيفه يف �أف�سل �سورة.‬ ‫وقد ل تكون تلك �لفطرة كافية لتحرير �لطاقة �لكامنة يف �لإن�سان ل جُيدرك من �أين و�إىل �أين وكيف‬ ‫وماذ� وملاذ� وهل؟.‬ ‫فكان ل بد من معزز خارجي ‪ catalyst‬ي�ساعد يف "�سحب" تلك �لطاقة �إىل جانب "دفع" �لفطرة‬ ‫جُ ِّ‬ ‫من �لد�خل.‬ ‫ومت ََّثل �ملعزز �خلارجي يف �لأنبياء و�لر�سل حماولني "�سحب" تلك �لطاقة �لكامنة لتخرج من �أجل‬ ‫�لإعمار و�لإ�سالح و�ل�ستخالف �حلقيقي لالإن�سان على �لأر�ص.‬ ‫وكانت �أد�ة "�لتد ّبر" هي �لأد�ة �لناجعة يف حترير تلك �لطاقة من مكمنها �ملند�ص حتت ركام‬ ‫�لربجمة �لماعية و�لإن�سد�د �إىل ما هو "متفق" عليه يف �ملجتمع، فكان }بل قالو� �إِنا وجدنا‬ ‫َ ْ َ ُ َّ َ َ ْ َ‬ ‫�آباءنا علَى �أُمة و�إنا علَى �آثارهِ م مهتدُون{ �لزخرف 22‬ ‫َ َ َ َ ّ َ ٍ َ ِ ّ َ َ َ ِ ُّ ْ َ َ‬ ‫خارطة طريق �أولئك �لغا�سون �لطرف عن فهم طاقتهم �ملكبوتة.‬ ‫ومل تقت�سر مهمة �لأنبياء و�لر�سل على حترير �لإن�سان من عبوديته �لأوىل �ملتمثلة يف �لإنغالق‬ ‫على �لن�ص �حلركي للعقل �لمعي �ملوجود يف �ملجتمع، بل و��سل �سري ذلك �لتحرير بالدعوة لعدم‬ ‫9‬
  • 10. ‫الإنغالق �أي�ض ًا يف فهم الن�صو�ص املقد�سة املتمثلة يف الكتب ال�سماوية، و�أبرزها و�آخرها القر�آن‬ ‫الكرمي، معجزة �آخر الأنبياء والر�سل، ومعجزة �آخر الزمان.‬ ‫وت�أتي دعوة "الت�أمل والتد ّبر" من نف�س الكتاب املقد�س وهو القر�آن الكرمي، كالم اهلل تعاىل، وكل‬ ‫ن�ص له قابلية ت�أويله، مما خلق تعدد ًا يف املدار�س الفكرية واملذاهب، وهذه طبيعة ب�شرية را�سخة،‬ ‫ٍّ ّ‬ ‫فلكل منا نافذته التي يطل عليها لنف�س الغرفة املقد�سة وهي القر�آن الكرمي، ويكون مدار احلديث‬ ‫عن نف�س الغرفة ال غريها.‬ ‫ومع وجود ن�ص ديني مقد�س وهو كالم اهلل املوجود يف القر�آن الكرمي، ومع وجود ن�صو�ص �أخرى‬ ‫من ال�سرية تف�سر كالم اهلل تعاىل، تبقى الدعوة للت�أمل والتدبر مفتوحة. وهذا ما مييز الإ�سالم‬ ‫ّ‬ ‫عن غريه، فلي�س هناك ن�ص وقفي يلزمه فهم وقفي �أي�ض ًا يف كل القر�آن الكرمي، بل هناك م�ساحة‬ ‫ٌ‬ ‫جُ ّ‬ ‫للتدبر والدخول يف عمق بحر لي يف كالم اهلل تعاىل، واحلديث هنا عن كالم اهلل تعاىل وعملية‬ ‫الإ�سقاط احلركي لآياته يف حياتنا املعا�صرة، ولي�س لتلك التي لها جنبة ت�شريعية وا�ضحة ومثبتة.‬ ‫وهذا ما ين�سف �أي �سلوك كهنوتي ُيبعد العقل عن التدبر والتفكري ويح�صر الأمر على فئة دون‬ ‫�أخرى.‬ ‫ومن منطلق الآية الكرمية }�أَفل يتدبرُ‌ون القرْ‌�آن �أَم علَى قلوبٍ �أَقفالهَا{ حممد 42‬ ‫َ اَ َ َ َ َّ َ ْ ُ َ ْ َ ُ ُ ْ َ ُ‬ ‫ت�أتي هذه التجربة املتوا�ضعة من فرد م�سلم م�ؤمن بتحرير الطاقة الكامنة يف التفكري والتمثيل‬ ‫العملي للآيات يف كل ع�صر وم�صر.‬ ‫ِ‬ ‫فالإ�سالم قدم القر�آن كتاب ًا �سماوي ًا خلامت الر�سل، وما زال هذا الكتاب يزخر ببحور ي�ستحق بناء‬ ‫ّ‬ ‫�سفن التدبر والعمل لها.‬ ‫الأوريغامي ‪ ،origami‬هو فنٌ ياباين لطي الورق، فمن ورقة عادية ميكن �أن يخرج منها �ألف‬ ‫�شكل و�شكل، وحتوي الآيات القر�آنية التي حتت�ضنها كل �صفحة من القر�آن قدرة هائلة من املعاين‬ ‫والدالالت التي ال تنتهي، لذا كان القر�آن الكرمي �صاحل ًا لكل زمان ومكان.‬ ‫01‬
  • 11. ‫جتربة متوا�ضعة يحاول الكاتب �أن يطوي الورق بطريقته اخلا�صة ليقدمه للقاريء، والذي ب�إمكان‬ ‫الأخري �أي�ض ًا �أن يطوي عرب "التدبر" نف�س الآيات ليقدم �شكال �آخر وهكذا. لتطوف عقول املتدبرين‬ ‫ً‬ ‫حول �أقد�س و�أ�صفى ينبوع فتنهل منه �سلوك ًا وفكر ًا ير�سم مالمح منتجة يف الثقافة وال�سيا�سة‬ ‫ُ‬ ‫واالقت�صاد، وتبقى متعة التدبر والربط بالقر�آن الكرمي �أف�ضل "مترين" ميكن للفرد القيام به‬ ‫ليعي�ش كالم اهلل واقع ًا ملمو�س ًا ال بني دفتي م�صحف نلم�سه بجوارح ثالث فقط: اللم�س والنظر‬ ‫وال�سمع. بل تتعداه لتعي�ش يف البعد الثالث ومع التعمق فيه ن�صل للبعد الرابع واخلام�س و�أكرث.‬ ‫ّ‬ ‫ومن اجلدير بالذكر �أن بذرة الت�أمل والتدبر انطلقت قبل عام كامل من الآن ب�صورة ب�سيطة يف‬ ‫�صفحتي ال�شخ�صية يف الفي�س بوك، وكان التفاعل متوا�ضع ًا، لتكون امل�ساحة اجلديدة للت�أمل ون�شره‬ ‫عرب جمموعة �شبابية با�ستخدام برامج التوا�صل يف الهواتف الذكية. وكان �شهر رم�ضان قبل عام‬ ‫من ن�شر هذا الكتاب هي البيئة اخل�صبة للت�أمل وزراعة الأفكار ون�شرها، ليكون "احل�صاد" بعد‬ ‫ح ْول كامل يف �شهر رم�ضان جديد.‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ويحوي هذا الكتاب ٨١ ت�أمال لبع�ض �آي الذكر احلكيم، وي�ستند الت�أمل يف كثري منه على طريقة‬ ‫"طي" الفهم للكاتب، ويف البع�ض الآخر على ت�شابك م�ستند على �سرد الآيات وق�صتها وربطها‬ ‫بالواقع.‬ ‫�إ�ضافة اىل التدبر، �أ�ضاف الكاتب تلخي�ص بع�ض ر�سالة الآيات عرب �أ�شكال هند�سية، تعطي‬ ‫ملخ�ص ًا ب�صري ًا عن الآية وداللتها الت�أملية.‬ ‫وكما هو بي من عنوان الكتاب، فهو مقدم لت�أمالت لبع�ض الآيات، ال تف�سري لها.‬ ‫ّ‬ ‫ِنّ‬ ‫جتربة ب�سيطة، �أ�أمل �أن تفتح �آفاق ًا �أرحب لل�شباب امل�سلم يف الت�أمل و"طي" التدبر كل ح�سب قدرته‬ ‫ٌّ‬ ‫وزاويته ليقدم "�أوريغامي - تد ّبر" جديد، يعي�شه �سلوك ًا وفكر ًا و�إنتاج ًا يف ميادين احلياة املختلفة.‬ ‫ّ‬ ‫جعفر حمزة‬ ‫�شهر رم�ضان ٣٣٤١هـ - �أغ�سط�س 2102م.‬ ‫مملكة البحرين‬ ‫11‬
  • 12. 12
  • 13.   GPS 13
  • 14. ‫حْ َ ْ ُ هَّ ِ َ ِّ ْ َ َ‬ ‫ْ ِ هَّ ِ َّ ْ َ ِ َّ ِ‬ ‫}بِ�سم الل الرحمن الرحِ يم (1) المد لِل رب العا مَلِني (2) الرحمن الرحِ يم (3) مَالِكِ يوم‬ ‫َِْ‬ ‫َّ ْ َ ِ َّ ِ‬ ‫الدّين (4) �إِياك نعبد و ِ�إياك ن�ستعني (٥) اهْ دِ نا ال�صر‌اط ا مْلُ�ستقِيم (٦) �صر‌اط الذِ ين �أَنعمتَ‬ ‫ِ َ َ َّ َ ْ َ ْ‬ ‫َ ِّ َ َ ْ َ َ‬ ‫َّ َ َ ْ ُ ُ َ َّ َ َ ْ َ ِ ُ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َ ْ ِ ْ َ رْ ِ‌ ُ َ ْ ِ ْ َ اَ َّ ِيّ‬ ‫علَيهم غي ا مْل َْغ�ضوبِ علَيهم ول ال�ضال (٧){‬ ‫ب�سم اهلل الرحمن الرحيم هي �آية ا�شتعال حمرك كل فعل وعمل ونية لل�سماء على وجه الأر�ض، هي‬ ‫ّ‬ ‫العنوان العام املتحرك با�سم خالق الكون، وهي الب�ساط املمتد من قلب امل�ؤمن يف �صناعة كل قوالب‬ ‫العمل الر�سايل والتغيريي يف املجتمع.‬ ‫الب�سملة �أول �آية يف القر�آن الكرمي وهي جزء ال يتجز�أ من �أول �سورة، �إذ تُعد جزء من احلمد،‬ ‫ً‬ ‫وميكن اعتبار الرتكيبة الو�صفية لهذه الآية �إختزاال مل�سار العبد �إىل ربه، فابتداء الإ�ستعانة باخلالق‬ ‫عرب "الباء" يف ذكر ا�سمه الأعظم الذي ال ُيطلق على غريه حتى مع الآلهة املزيفة الإن�سية منها‬ ‫�أوامل�صنوعة، فال ُيقال "اهلل" �إال �إليه فقط، وهو اال�سم اجلامع لكل �صفاته تعاىل.‬ ‫فيبد�أ العبد بذكر ا�سم اهلل وتعقيب ًا ب�صفتني اثنتني كدائرتني حميطتني بالعبد، دائرة الرحمانية‬ ‫والرحيمية، الأوىل هي الدائرة الأكرب ال�شاملة لكل املوجودات مما يعطي الدفعة الكونية للعبد‬ ‫ملعرفة حقيقية بخالقه وا�سع الرحمة لكل موجود، فبالتايل تكون نظرته وواقعه وتفاعله مع الأمور‬ ‫خمتلف ًا ومنطلق ًا من موقع قوة الإميان باخلالق الذي �أحاط بكل �شيء دون ا�ستثناء. وهو نف�س الأمر‬ ‫الذي يهبه التحرك للإكت�شاف والتفاعل والتمازج مع الكون املحيط به، فمن خلقه هو من خلق هذا‬ ‫الكون، فيكون التفاعل مع املحيط مطلوب ًا قبل �أن يكون متوقع ًا.‬ ‫ويتحرك للداخل يف �أعماق ذاته عرب خ�صو�صية الرحيمية املوقوفة لعباد اهلل امل�ؤمنني، وبالتايل‬ ‫ّ‬ ‫تكون �شرارة التغيري ابتداء بذكر ا�سم واهب الطاقة و�صانعها ا�سم ًا "اهلل"، ويردفها العبد بذكر‬ ‫41‬
  • 15. ‫دائرتي الرحمن والرحيم، ليكون كل ما ومن يتحرك �إليه وفيه وعنه ومعه �ضمن تلك الدائرتني ال‬ ‫غري وال يكون فعال �أو واقع ًا �إال بهما.‬ ‫ً‬ ‫الب�سملة عنوان امل�ؤمن مما يجعلها عنوان ًا حقيقي ًا لكل فعل، واحلديث "كل �أمر ذي بال مل ُيذكر‬ ‫فيه ب�سم اهلل فهو �أبرت"، ي�شري �إىل �أنّ النق�صان يف كل �أمر مرهون بعدم اكتمال معادلة الكون‬ ‫الأ�سا�سية يف النظر والعمل يف الأمور، وهو وجود اهلل ذكر ًا ونية وحركة وعمال فيما نقوم به.‬ ‫ً‬ ‫ومت ّثل الب�سملة كقول اعرتاف ًا وا�ضح ًا باخلط العملي للإن�سان، فال يقول ال�سارق ب�سم اهلل وهو‬ ‫ي�سرق، وال يقول الزاين ب�سم اهلل وهو يزين، وال يقول القاتل ب�سم اهلل وهو يقتل، �إال ا�ستثناء من‬ ‫حتوير الدين برمته �إىل دين م�ش َّوه للفتك بالآخر بعناوين مقد�سة، فتكون الب�سملة من الأدوات‬ ‫ُ‬ ‫امل�ش َّوهة –بفتح امليم-، فرنى الإرهابي يذبح بريئ ًا ويذكر ا�سم اهلل عليه!، ومع ذلك ال يقول الزاين‬ ‫َ‬ ‫�أو ال�سارق ب�سم اهلل وهو يقوم بفعله!‬ ‫الب�سملة خطة وم�سار وخارطة طريق للم�ؤمن، وجهر ُه بها �إعالن بخطه الر�سايل، وهو ما يجعل فعل‬ ‫اجلهر بها من �صفات امل�ؤمنني، كما ورد يف احلديث عن الإمام الع�سكري "عليه ال�سالم":‬ ‫ّ‬ ‫(عالمات امل�ؤمن خم�س: �صالة �إحدى وخم�سني، وزيارة الأربعني، والتختم باليمني، وتعفري‬ ‫اجلبني، واجلهر بـ }ب�سم اهلل الرحمن الرحيم{).‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫واجلهر �إعالن عن حالته التي هو فيها، ولو بالإمكان قولها �إخفات ًا. وما القول جهر ًا �إال �إعالن‬ ‫�صوتي عن اخلط والتوجه والفعل بعدها، وهي حالة حركية ظاهرية لإبراز م�سارها �أينما كان‬ ‫امل�ؤمن.‬ ‫فال تقت�صر الب�سملة على ذكر اللفظ، بل هي "الو�صفة" التي ال تُلفظ �إال لأجل فعل ر�سايل �إن�ساين‬ ‫�سماوي مغيرّ للأف�ضل. ف�أ�صبحت الب�سملة عنوان ًا فا�صال منذ بداية الر�سالة، فرف�ضت قري�ش‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫الب�سملة يف العهد املكتوب بينها وبني الر�سول الأكرم (�ص)، وجزء منها بقي دون م�سا�س يف وثيقة‬ ‫قري�ش يف الكعبة التي �أكلتها الأَر�ضة -احل�شرة-.‬ ‫َ َ‬ ‫وتبقى الب�سملة عنوان امل�ؤمن يف حركاته و�سكناته كتميمة �سماوية تُذكره باملن�ش�أ وتُعينه على امل�سري‬ ‫51‬
  • 16. ‫بذكرها لنف�سه. وك�أنها "اخلتم" الذي ي�ضعه امل�ؤمن على كل عمل ُيقدم عليه، وما لذلك "اخلتم"‬ ‫من هدفية ومعنى ور�ؤية وتغيري.‬ ‫حْ َ ْ ُ هَّ ِ َ ِّ ْ َ َ‬ ‫} المد لِل رب العا مَلِني {‬ ‫هنا ذكر نتيجة بو�صف ال�سبب.‬ ‫مبعنى �أن احلمد ال يكون �إال ل�سبب �أمر �أ�صلي ال عار�ض وهي النعمة، ومل ُيذكر هنا ال�شُكر بل‬ ‫احلمد، واحلمد تعظيم لأجل ما �صدر من �صاحب الإنعام، �سواء و�صل للفرد مبا�شرة �أم  مل ي�صل،‬ ‫بعك�س ال�شكر، وهو تعظيم لأجل �إنعام ي�صل للفرد مبا�شرة. ‬ ‫وبوابة الفاحتة ت�أتي من خالل حمد اخلالق املو�صوف بالآية بـ "رب العاملني"، فحركة احلمد‬ ‫اخلا�صة باهلل يتبعها و�صف هلل تعاىل. ف�أي خالق �أحب  باحلمد هلل  كرب العاملني؟ وبعد �إطالق‬ ‫ّ‬ ‫�شرارة م�صباح هذه ال�سورة بالب�سملة ي�ستمر زيتها باحلمد والو�صف للخالق يف عملية متوا�صلة‬ ‫من و�ضع م�سرية العبد يف عالقته مع ربه، وذلك عرب هذه الآية الأوىل التي �ستكون "نربا�س" كل‬ ‫ال�سورة.‬ ‫فعنوانها التوحيد املطلق، ونبذ لكل �آلهة غري اهلل، لت�سقط كل الأ�صنام مادية كانت �أو معنوية ليبقى‬ ‫الرب احلقيقي املالك للوجود واملانح للحياة دون غريه وهو اهلل جل وعال.‬ ‫ّ‬ ‫وعند �إدراك التوحيد تربز قيمة الإن�سان ب�إن�سانيته احلقة، بحريته وكرامته و�سبيل تكامله. فتعدد‬ ‫الآلهة �أو �إنحراف الطريق لغري اهلل الواحد الأحد ُيف�ضي �إىل ا�ستنزاف طاقة الإن�سان يف غري‬ ‫موردها، ليتم ا�ستغالله من قبل حمرتيف �صناعة الآلهة من رجال دين �أو �سلطة حاكمة، ويكون‬ ‫النتاج الب�شري من�صب ًا يف تلك ال�سيا�سة الدينية املُعلنة، فيكون الإ�سفاف بالعقل والفطرة مع ًا.‬ ‫فلي�س هناك كرامة لإن�سان دون توحيد خال�ص هلل، فغيابه ت�شويه لهدف اخللقة بوجود التعددية‬ ‫�أو بغياب اخلالق يف املجتمع، و�إذا غاب الهدف احلركي واملُكرم للإن�سان يف حياته الدنيا ب�سبب‬ ‫ّ‬ ‫ذينك ال�سبيلني "التعددية �أو الإحلاد"، غاب "الإن�سان" و�أ�صبح كمثل �إن�سان "الغاب". ال هدفية،‬ ‫ال كرامة وال بناء ي�شعر الإن�سان بقيمته يف هذا الوجود.‬ ‫61‬
  • 17. ‫وهذه الآية الكرمية راية توحيد وا�ضحة وخمت�صرة.‬ ‫} الرحمن الرحِ يم ِ{‬ ‫َّ ْ َ ِ َّ‬ ‫وي�ستمر زيت الو�صف بالتدفق يف و�صف اخلالق لي�ضيء م�صباح قلب هذا الإن�سان �أكرث، فمن‬ ‫ت�صف وكيف ت�صف؟ ‬ ‫رب العاملني، وبعدها "الرحمن الرحيم" فهو اخلالق للعامل كله، و�أي�ض ًا هو الرحمن به والرحيم‬ ‫عليه، جمع بني �صفتي القدرة والرحمة، ولي�س بذي قوة رحيم وال كل ذي رحمة به قوة، �إال اهلل‬ ‫تعاىل.‬ ‫و�إعادة ال�صفتني هنا لي�س تكرار ًا بل و�صف ًا تكميلي ًا للوحة كونية متنا�سقة بني و�صف ال�سبب ور�سم‬ ‫طريق من ي�سري عليه.‬ ‫ويف ذلك تربية يومية يذكرها الإن�سان امل�سلم يف �صالته كل يوم "�ستني مرة"، در�سُ الرحمة من‬ ‫الرب، ليعك�سها الإن�سان يف �سلوكه مع املحيط، من �إن�سان وحيوان ونبات وجماد. در�س يزرع يف‬ ‫ٌ‬ ‫الإن�سان الرحمة واللني.‬ ‫} مَالِكِ يوم الدّين {‬ ‫َِْ ِ ِ‬ ‫�ألي�س من املنطقي �أن يكون خالق الكون هو مالك يوم القيامة والآخرة؟‬ ‫بالطبع وما ذكره هنا �إال لت�أكيد ذلك بالفعل وهو م�ؤكد بالقوة –عند الإن�سان-، والآية ت�صف‬ ‫بلفظني فقط م�شهد ًا مذهال ومهوال عن يوم القيامة.‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫"مالك" واملالك �أي امل�سيطر واملتحكم وكل �شيء �إليه راجع، وتنقطع كل الأ�سباب الظاهرية‬ ‫وتتج ّلى املالكية احلقيقية هناك يف يوم القيامة والعدالة املطلقة.‬ ‫"يوم الدين" وهو يوم الإن�صاف والعدالة ويوم اجلزاء وجت ّلي الدين فيه بكل عناوينه وم�صاديقه. ‬ ‫هو اليوم الذي يعتدل فيه ميزان الكون برمته-والذي �أخ ّله الإن�سان بطغيانه وطمعه- وي�أخذ كل‬ ‫71‬
  • 18. ‫ذي حق حقه، ولي�س هذا مبدعاة للتواكل، بل هو حجة وثواب وجزاء تقدمه ال�سماء لكل من ي�سعى‬ ‫لإحالل هذا التوازن الكوين و�إرجاعه �إىل طبيعته عرب الفطرة ال�سليمة للإن�سان.‬ ‫ذلك اليوم الذي يدفع الإن�سان امل�ؤمن حل�ساب نف�سه جيد ًا منذ الآن، ففي الدنيا عمل بال ح�ساب‬ ‫ويف الآخرة ح�ساب بال عمل. مبد�أ املعاد تذكره هذه الآية الكرمية بطريقة خمت�صرة جد ًا وفـي‬ ‫لوحة �إعجازية عميقة.‬ ‫�أمل ال يتوقف عن احلركة والإجناز للدنيا، وحما�سبة ال تغيب حلظ العني للآخرة. ميزان مثايل‬ ‫مبهر لإحداث التغيري الإيجابي عند الإن�سان امل�ؤمن، �إذا ما �أدرك حقيقة "مالك يوم الدين".‬ ‫ُ‬ ‫ومن الب�سملة �إىل هذه الآية خط خلق كامل:‬ ‫ابتداء با�سم اخلالق املك ِّون وحمد للخالق وو�صفه بالربوبية للعاملني جميع ًا، و�إكمال ذلك الو�صف‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫بالرحمانية والرحيمية و�صوال �إىل �إقرار هذه العظمة مبالكيته ليوم الدين. ‬ ‫�أربع �آيات فقط ت�صف ابتداء امل�سرية �إىل نهايتها متهيد ًا خلارطة طريق وا�ضحة يف الآيات الأربع‬ ‫املتبقيات يف ال�سورة املباركة.‬ ‫َّ َ َ ْ ُ ُ َ َّ َ َ ْ َ ِ ُ‬ ‫} �إِياك نعبد و ِ�إياك ن�ستعني {‬ ‫ً‬ ‫و�أول اخلطوات العملية للتغيري هو تزويد حمرك العمل للإن�سان امل�ؤمن باهلل بوقود العبودية �أوال،‬ ‫ّ‬ ‫ومفهوم العبودية هلل هو �أ�صل احلرية يف الكون، فم�ساحة العبودية هلل هي بحجم كل الكون دون‬ ‫حدود. ‬ ‫"�إياك نعبد و�إياك ن�ستعني" ال تكون الإ�ستعانة �إال من ذي قوة، وهي فعل الطلب، وال يكون‬ ‫الطلب �إال بتحقق من لديه تلك القوة، لذا وجب تثبيت �صاحب القوة قبل اال�ستعانة. فكان‬ ‫الإقرار بالعبودية قبل طلب اال�ستعانة.‬ ‫ُ‬ ‫وتبد�أ هذه الآية  مبخاطبة الإن�سان لربه -�إياك-  يف خطاب مبا�شر به القرب ال ال ُبعد، خطاب‬ ‫العبودية قبل اال�ستعانة، �إذ ال تكون الإ�ستعانة �إال بقوي ج ّبار، لذا بد�أ خطاب الإن�سان امل�ؤمن‬ ‫بالإعرتاف بالعبودية العملية لتكون الإ�ستعانة باملعبود متحققة.‬ ‫81‬
  • 19. ‫والإقرار بالعبودية هنا معناه ت�سليم مطلق للعبد امل�ؤمن لربه، مما ينعك�س على �إظهار قوته يف كل‬ ‫ميدان يف احلياة، �إذ تت�صاغر �أمامه كل الدنيا دون تعظيم "خمتلق" �أو �أخذ ب�أ�سباب �أر�ضية فقط،‬ ‫وهو ما يجعل امل�ؤمن ع�ص ِّي ًا على من يريد �إذالله وا�ستعباده يف الدنيا، ليكون حر ًا طليق ًا يف كل‬ ‫َ‬ ‫ميدان، ومنتج ًا فاعال �أينما كان يف كل جماالت احلياة، ليعي�ش العزة يف نف�سه دون ارتباط �أر�ضي‬ ‫ً‬ ‫يحد من حريته ك�إن�سان ميلك م�صريه، فيتحرر من كل قيود اال�ستعباد ب�شتى ال�صور يف ال�سيا�سة‬ ‫واالقت�صاد والثقافة.‬ ‫وتكرار اال�ستعانة ب�إياك بعد تكرار العبودية بها، ت�أكيد م�ستمر ومتوا�صل يف ذلك اخلط الذي يبد�أ‬ ‫ب�إقرار التمازج مع حركة الكون الطبيعية يف العبودية لتكون منطلق ًا للتغيري ب�أداة الإ�ستعانة.‬ ‫وعندما يقر العبد بعبوديته ملواله، ف�إن املوىل يهبه القدرة والت�صرف مبا يكون للموىل له هدف‬ ‫وللعبد به قدرة وتطور.‬ ‫ ‬ ‫َ ِّ َ َ ْ َ َ‬ ‫} اهْ دِ نا ال�صر‌اط ا مْلُ�ستقِيم {‬ ‫بعد و�صف هلل عروج ًا �إىل و�ضع حجر الأ�سا�س من اعرتاف حقيقي للعبودية �إىل دافعية اال�ستعانة،‬ ‫ت�صل الآيات �إىل مفرتق الطرق بعد كل تلك الآيات الكرميات التي وفرت الأر�ضية لتقدمي الأدوات‬ ‫للإن�سان من �أجل معرفة موقعه يف الكون -�إياك نعبد- وكيف يبد�أ -�إياك ن�ستعني-.‬ ‫يكون م�سار الإن�سان الر�سايل العابد العامل هو الو�صول �إىل ال�صراط امل�ستقيم، وال يكون ذلك‬ ‫بدون هداية، فال القلب وحده يكفي مبعزل عن العقل للو�صول �إىل ال�صراط امل�ستقيم، وال العك�س‬ ‫�صحيح.‬ ‫فالهداية يلزمها �ضلعان �أر�ضيان وثالث �سماوي وهو الأهم، فال�ضلعان الأر�ضيان هما القلب‬ ‫للإميان والعقل للر�سالة، وال�ضلع الثالث هو الهداية والتوفيق.وهل هناك �صراط غري م�ستقيم؟‬ ‫كل ال�س ُبل ولو كانت معبدة والتي تفتقد �إىل �إ�شارات �سماوية فيها تكون غري "م�ستقيمة"، �إذ يكون‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫من ورائها ب�شر، وبالتايل تكون نظرته قا�صرة، والنتيجة وجود �سبل وطرق غري حممودة العواقب‬ ‫91‬
  • 20. ‫لنق�ص معبدها. ‬ ‫ُّ‬ ‫لذا ال بد للإن�سان من م�سار يكون عليه ال مبعنى اجلرب الفر�ضي، بل بعنوان ال�سنة الكونية التي‬ ‫ُ‬ ‫َّ َ َ ْ َ ُ َّ ِ َ َّ َ ِ ً َ َّ َ ُ ً‬ ‫يكون له مطلق اختيار ما يريد من م�سار } �إِنا هديناه ال�سبيل �إِما �شاكر‌ا و�إِما كفور‌ا {الإن�سان 3،‬ ‫فاالختيار بني يديه ال جرب مطبق وال تفوي�ض مطلق يف حركاته و�سكناته.‬ ‫ُ‬ ‫ فاختيار ال�صراط �أو امل�سار �سنة كونية ملعرفة �إىل �أين تتجه ومل تتجه وكيف تتجه؟ �إىل هدفية‬ ‫ُ‬ ‫الوجود �إليك، وال يعيق ذلك كل العوار�ض احلا�صلة يف احلياة من موت �أو مر�ض �أو �سجن �أو غريها‬ ‫من �أمور قد تبدو �أنها تُبطئ حركة ال�سري يف ذلك ال�صراط، لذا ترى الكثري من الآيات والأحاديث‬ ‫التي تدفع يف اجتاه امل�سري ولو اعرت�ض عار�ض فيه و�أدى �إىل الغياب الأر�ضي و�أنت ما زلت تعمل‬ ‫يف ذلك ال�سبيل.‬ ‫وما حديث �أمري امل�ؤمنني علي بن �أبي طالب (ع)  �إال مثال ود�ستور عملي جميل يبني ذلك ويقدمه‬ ‫بطريقة عملية "اعمل لدنياك ك�أنك تعي�ش �أبداً واعمل لآخرتك ك�أنك متوت غداً". تلك هي‬ ‫معادلة الإنتاج دون توقف. وال تكون �إال يف �صراط م�ستقيم ي�ضمن ا�ستمراريتها، ووقودها الذي‬ ‫ي�ضخه الإميان بحقانية هذا ال�صراط و�أزليته.‬ ‫فما دام ال�صراط الذي مت�شي عليه "م�ستقيم ًا" ف�ضمان نتاجه دني ًا ملمو�س ًا ولو بعد حني، ويف‬ ‫الآخرة م�ضمون ًا بلحاظ الوعد الإلهي يف ذلك. ‬ ‫وما دام ال�صراط امل�س�ؤول عنه من رب العاملني بقول "اهدنا"، فطلب الهداية هنا من رب العباد،‬ ‫ف�سيكون اجلواب يف حمله ال غري، ومع ذلك ي�أتي التو�صيف عرب الت�صنيف التايل ك�إ�شارات طريق،‬ ‫تلك "طريق غري معبدة" وتلك "�أمامك مرتفعات" وثالثة "الطريق غري �سالكة"، لذا ال بد من‬ ‫و�صف �أي �صراط هو املق�صود.‬ ‫ت�أتي الآية التالية لتو�ضيح ال�صراط وماهيته.} �صر‌اط الذِ ين �أَنعمتَ علَيهم {هو ال�صراط الذي‬ ‫ِ َ َ َّ َ ْ َ ْ َ ْ ِ ْ‬ ‫�سلكه ال�سائرون املُنعم عليهم من ف�ضل اهلل ونعمه التي ال تحُ�صى، وكما تذكر بع�ض التفا�سري هو‬ ‫َ‬ ‫ملن �شملته بالنعمة الإلهية وهم �أربع جمموعات ذكرتها الآية الكرمية يف �سورة الن�ساء، وهي:‬ ‫02‬
  • 21. ‫ِ َ َ ّ َ ُ َ َ َ َ َ ّ َ َ ْ َ َ ُ َ ْ ِ ْ َ ّ َ ِ َ َ ِ ّ ِ ِ َ َ ُّ ِ‬ ‫}ومنْ يُطِ ع اهلل والر�سول ف�أُولئِك مع الذِ ين �أَنعم اهلل علَيهم مِ ن النبيني وال�صدّيقني وال�شهَداء‬ ‫ََ‬ ‫وال�صالني وح�سن �أُ‬ ‫َ َّ حِ ِ َ َ َ ُ َ ولئِك رفِيقاً{ الن�ساء 96.‬ ‫َ َ َ‬ ‫بداية ظهور النعمة تبد�أ بزلزال �أر�ض املجتمع بوجود الأنبياء و�إعالن الثورة، ومن ثم يكون ال�صف‬ ‫الثاين لهم ممن �أنعم اهلل عليـهم وهم ال�صديقون ملوا�صلة م�سرية الإ�صالح والثورة على ظلم‬ ‫الإن�سان لنف�س ــه وغريه، وبعدها ت�أتي مرحلة الت�ضحية والفداء بالـ ــروح عب ــر ال�شه ــداء لتثب ــيت‬ ‫هــذا الطريـق ودفــع ثمن ــه على الأر�ض، ويك ـ ــون املـ�ســار الأخ ـيـر هو ا�ستم ــرار لذلـك النهج عبـر‬ ‫} ال�صاحلني { العاملني يف املجتمع. وتلك املجموعات �أ�شار �إىل نكتتها �صاحب تف�سري الأمثل.‬ ‫} غي ا مْل َْغ�ضوبِ علَيهم {‬ ‫َ رْ ِ‌ ُ َ ْ ِ ْ‬ ‫من كان مغ�ضوب ًا عليه تنعدم معه الإ�شارات للو�صول �إىل طريق م�ستقيم، فعندما يتحرك العبد‬ ‫وهو مغ�ضوب عليه من اهلل، نتيجة �أي �سبب ي�ستلزم ذلك الغ�ضب، فال ميكن �أن يهتدي لل�صراط‬ ‫امل�ستقيم، لأنه بب�ساطة فقد "بو�صلة" الطريق.‬ ‫هم �أولئك الذين اختاروا العناد و�صم الآذان وتغييب العقل مع الفطرة من �أجل م�صاحلهم الآنية،‬ ‫�أولئك الذين ا�ستحبوا احلياة الدنيا على الآخرة، هم املعاندون املنافقون امل�شحونون حقد ًا و�سواد ًا‬ ‫على �سبيل ال�سماء، فكان الغ�ضب الإلهي ن�صيبهم. واليهود املعاندون هم �أبرز م�صداق لهذه الآية‬ ‫كما تذكر كثري من التفا�سري القر�آنية، بحكم �سلوكهم الدموي بقتلهم الأنبياء تارة وبحكم �سلوكهم‬ ‫الدعائي املقيت �ضد الأنبياء وامل�صلحني تارة �أخرى وهم الأمنوذج الأبرز لعنوان } غي ال َْغ�ضوبِ‬ ‫َ رْ ِ‌ مْ ُ‬ ‫علَيهم {. ومي�ضــي على هذا ال�سبـيل من انتهج فكرهم و�سلوكهم، ه ــم امل�صـداق الأو�ضح، و�صـور‬ ‫َ ِْْ‬ ‫} ا مْل َْغ�ضوبِ علَيهم { ال تتوقف يف كل زمان ومكان.‬ ‫ُ َ ِْْ‬ ‫َ اَ َّ ِّ‬ ‫} ول ال�ضالني {‬ ‫ وبعد ا�ستثناء املغ�ضوب عليهم ممن ال ميكنهم �أن يكونوا على �صراط �سوي وم�ستقيم، هناك الفئة‬ ‫الأخرى "ال�ضالني"، وما يحويه عنوان ال�ضالل من تخبط يف م�سار الفطرة الإن�سانية، و�ضياع‬ ‫بو�صلة ال�سري �إىل اهلل من خالل "�ضاللهم" يف �أنف�سهم وللآخرين. وهم املنحرفون من الن�صارى ‬ ‫كما ذكرت التفا�سري. ممن �ضلوا طريق الهداية والفهم احلقيقي لديانتهم، فيكون الت�شوي�ش‬ ‫ّ‬ ‫12‬
  • 22. ‫والتزوير مالم�س ًا ل�سلوك �أولئك املنحرفني عن خط ال�سيد امل�سيح (ع). وت�سري م�صاديق } ول‬ ‫َ اَ‬ ‫ّ‬ ‫َّ ِّ‬ ‫ال�ضالني { على كل من �ضل ال�سبيل ومترت�س بالزيف.‬ ‫فمعادلة الو�صول �إىل ال�صراط امل�ستقيم. بعد و�صف رب العاملني وو�صفة العمل يف الدنيا عرب‬ ‫�إقرار بالعبودية واال�ستعانة به، يكون من خالل الو�صول �إىل نهاية هذه العملية برمتها، ال�صراط‬ ‫امل�ستقيم وما بعد ال�صراط امل�ستقيم �إال النهاية املتوقعة يف �آخر �سل�سلة ت�صنيع احلياة، وهي‬ ‫ر�ضوان اهلل والفالح الأكرب. ‬ ‫هي الفاحتة، فاحتة كل باب للتغيري هي فاحتة حكاية الب�شر كلهم، هي الد�ستور الكوين مل�سرية‬ ‫الإن�سان. هي خارطة الطريق لكل م�سار للتغيري.‬ ‫22‬
  • 23. ‫‪≥jô£dG áWQÉN‬‬ ‫‪á–ÉØdG IQƒ°S‬‬ ‫�لإنطالقة‬ ‫معرفة م�سدر �لقوة‬ ‫(�لب�سملة)‬ ‫(�سفات �لرحمة)‬ ‫�لعمل بالعبودية‬ ‫�عرت�ف للتغيري‬ ‫(�حلمد و�لربوبية)‬ ‫(عبودية و��ستعانة)‬ ‫طاقة م�ساعفة‬ ‫ل�ستمر�ر �لعمل‬ ‫��ستثناء�ت �لطريق‬ ‫(مالك ّية يوم �لدين)‬ ‫(�ملغ�سوب عليهم‬ ‫و�ل�سالني)‬ ‫�ختيار �لطريق‬ ‫(�لهد�ية)‬ ‫32‬
  • 24. 24
  • 25.    25
  • 26. ‫هناك ح�سابات يبدو من ظاهرها غري ما تُبطن، ما يجعل الفكر الب�شري وكثري ًا من التحليل‬ ‫املو�سوم باملنطقي �أو الواقعي يقف عاجز ًا عن �إدراكها بعد حني. فتدفع احلكيم للرت ّيث يف �إ�صدار‬ ‫احلكم �أو اال�ستعجال يف البناء على ظاهر الأمر.‬ ‫ويف هذا الأمر نكتة لها ربط متني بوجود قوة مهيمنة وحاكمة و�إن مل ندرك اخلط الزمني املتوا�صل‬ ‫ل�سري �أي حركة، فمهما بلغ الإن�سان من ب�صرية ومعرفة، يظل عاجز ًا وق�صري نظر عن �إدراك لوحة‬ ‫الكون الكلية �إن اعتمد فقط على قدرته الذاتية.‬ ‫مثله كمثل من ينظر �إىل ثقب �صغري وال يرى �إال لون ًا واحد ًا فقط، ويقنع نف�سه ب�أن ال �شيء ُيثري‬ ‫الإهتمام وراء الباب، فما هو �إال لون واحد ال غري. وهو ال ُيدرك �أن لوحة جميلة وغاية يف الدقة‬ ‫َّ‬ ‫وكبرية جد ًا من وراء ذلك الباب، وهو مل ير �سوى جزء منها، ولو �أدرك الأمر لتوقف عن النقد ملا‬ ‫َ‬ ‫يراه.‬ ‫وهذا املفهوم عنوان �أ�سا�سي يف حركة امل�صلحني كما التابعني لهم وامل�ؤمنني، لأنه ي�شكل "اخللطة‬ ‫ال�سرية" لل�صرب و�إدراك امل�صلحة بعد حني، ال مبعنى التواكل واال�ست�سالم، بل مبعنى فتح الإدراك‬ ‫خليارات ال ميكن للعقل الب�شري �إداركها.‬ ‫وبالتايل يكون الإن�سان  امل�ؤمن بهذه اخللطة مدرك ًا ملا هو �أبعد من "ثقب باب" احلياة التي يعي�شها.‬ ‫ُ‬ ‫�إنّ خط الإ�صالح الب�شري الذي تخطه ال�سماء لأهل الأر�ض، ي�أتي وفق "كوكتيل" بني الأ�سباب‬ ‫الأر�ضية والر�ؤية ال�سماوية، ويت�شكل هذا اخلط امل�ستقيم مع الوقت ويتكثف ليتحول �إىل دائرة هي‬ ‫نواة "الثقب الأ�سود ‪ "Black Hole‬اجلاذب �إليه كل ذي فطرة �سليمة يف املجتمع لإعمار الأر�ض‬ ‫و�إ�صالحها، �سواء كان من الطبقة احلاكمة �أو من عوام النا�س، وال �أدل على ذلك من اتباع‬ ‫الأنبياء من قبل طبقات ذات ثراء �أو جاه �أو منزلة و�سلطة، كامللكة بلقي�س وحتولها لدين نبي اهلل‬ ‫�سليمان و�أ�صحاب الكهف وهم يف مرتبة وزراء وقادة ع�سكريني وحتولهم �إىل ر�سالة ال�سيد امل�سيح‬ ‫ُ‬ ‫62‬
  • 27. ‫وامر�أة فرعون وهي زوجة �أعلى �سلطة يف بالدها �سارت على خطى التوحيد لل�سماء.‬ ‫وقد تدمج "اخللطة ال�سرية" املتمثلة ب�إدراك امل�صلحة الغيبية يف احلا�صل من �أمور اخلارجة عن‬ ‫يد التغيري وبني "الثقب الأ�سود"، ليخرج من بني هذا وذاك مناذج تتمتع بح�س عميق فيما ت�ؤمن‬ ‫بغ�ض النظر عن حميطها الكابت لها.‬ ‫ومتثل امر�أة فرعون �أمنوذج ًا م�ؤمن ًا من ال�ضفة الأخرى يف املجتمع، من تلك الطبقة احلاكمة،‬ ‫ممن لها اجلاه واملال وال�سلطة والرفاهية والأمر. ومع كل ذلك فهي تختار مبلأ �إرادتها خط‬ ‫الفطرة املنادي للعدالة واحل�س الإن�ساين ال�سليم.‬ ‫و�ضمن �أحداث مت�صاعدة ي�صل النبي املوعود �إىل الق�صر الفرعوين، والذي �صدر منه قرار‬ ‫الت�صفية اجل�سدية لكل مولود جديد.‬ ‫ وذلك بتدبري من رب ال�سماء لو�صول مو�سى �إىل ق�صر فرعون ودخول امر�أة الأخري على خط‬ ‫َّ‬ ‫احلدث، يجتمع خطا التدبري من ال�سماء واحلركة على الأر�ض، ليخرج من بينهما احلدث املُغيرِّ.‬ ‫بقاء مو�سى وثورته بعد حني.‬ ‫والآية مو�ضوع التد ّبر حتكي مقطع ًا من م�شهد حدث داخل الق�صر الفرعوين.‬ ‫}وقالتِ امر�أَت فر‌عون قر‌ت عينْ ل ولك ل تقتلوه عَ�سى �أَن ينفعنا �أَو نتخِ ذه ولدًا وهُ م ل‬ ‫َ َ َ َ ْ َ َّ َ ُ َ َ َ ْ اَ‬ ‫َ َ َ ْ َ‌ ُ ِ ْ َ ْ َ ُ َّ ُ َ ٍ ِيّ َ َ َ اَ َ ْ ُ ُ ُ‬ ‫َُْ َ‬ ‫ي�شعرُ‌ون{ الق�ص�ص ٩‬ ‫خطاب يجري بني امر�أة فرعون م�صر مع زوجها، والبالد تبكي �أطفالها حتت قانون "الطواريء" ‬ ‫ٌ‬ ‫الذي �أ�صدره فرعون.‬ ‫قانون يق�ضي بقتل كل مولود ذكر، وذلك بناء على ر�ؤيا �أتت فرعون يف املنام، وكان تف�سريها‬ ‫مدعاة للقيام مبثل هذه املجزرة، خوف ًا من والدة "مخُ ّل�ص اليهود"الذي كان فرعون ي�ستعبدهم‬ ‫وي�سوموهم �سوء العذاب، ويتخذهم وقود ًا لإر�ضاء جربوته ف�ضال عن ت�سيري �أمور البالد الت�شغيلية،‬ ‫ً‬ ‫72‬
  • 28. ‫كونهم من الطبقة الكادحة. قرار بالت�صفية الدموية لكل الأطفال الذكران من بني �إ�سرائيل، اعتمد‬ ‫ٌ‬ ‫فيه على "ر�ؤيا"، وهكذا هو حال املتجربين يف الأر�ض وامل�ستعلني غرور ًا وغطر�سة، فبقدر بط�شهم‬ ‫لإظهار قوتهم اخلارجية �إال �أنهم يعي�شون �أعلى درجات ال�ضعف والهوان والعجز، فيح�سبون كل‬ ‫�صيحة عليهم هم العدو، فاخل�شية من ظهور "�صوت معار�ض" يق�ض م�ضاجعهم، ويقبلون على كل‬ ‫جريرة وخطرية لأجل �إبقاء الأل�سن داخل �أفواهها.‬ ‫ومع كل البكاء والنحيب املمتزج ببكاء الأطفال الر�ضع يف �أرجاء كل حي، يكون طلب امر�أة فرعون‬ ‫ُ‬ ‫مبا�شر ًا وجريئ ًا بتبني طفل لهما!‬ ‫ّ‬ ‫} وقالتِ امر�أَت فر‌عون {‬ ‫َ َ َ ْ َ‌ ُ ِ ْ َ ْ َ‬ ‫مل يتم ذكر ا�سمها يف الآية ال�شريفة، بل هي زوجة فرعون الطاغية، والن�سبة لفرعون داللة على‬ ‫خط ما كانت عليه من مكانة وهي زوجة طاغية ع�صرها كله. وما لذلك من تبعات و�أزمات و�ضغط‬ ‫عليها وهي املر�أة امل�ؤمنة.‬ ‫لفة والتوافق وا�ستتمام‬ ‫ومن امللفت ذكر "امر�أة" فرعون ال زوجة، فالزوجة تُذكر يف حال حتقيق الأُ‬ ‫معنى الزوجية املعنوية يف جانب الأُلفة واملودة واملادية من جانب الإجناب، وهذا غري متحقق يف‬ ‫امر�أة فرعون، لذا مت ذكر "امر�أة" بدال من "زوج". فلم يكن هناك ت�آلف بينهما ال معنوي ًا وال‬ ‫ً‬ ‫مادي ًا، ال فكري ًا يف املنهج وال مادي ًا يف الإجناب.‬ ‫ُ َّ ُ َ ٍ ِيّ َ َ َ‬ ‫} قر‌ت عينْ ل ولك {‬ ‫تقدمي قرة العني لها للداللة على مكانتها يف قلب زوجها فرعون، و�أردفت "ولك"، لتُكمل �أُن�سها‬ ‫ب�أن�سه وفرحتها بفرحته،  وهذا يدل على الرغبة العارمة اخلفية لفرعون وزوجته يف تبني طفل‬ ‫ُ‬ ‫على �أقل تقدير، وهو ذلك ال�صراع بني ر�ؤية فرعون ب�أن يكون هالكه على مولود جديد يخ ّل�ص بني‬ ‫�إ�سرائيل منه، وبني �شعوره الأبوي وحنوه على زوجته بتلبية رغبتها، وتلك نكتة �إلهية يف �أن يكون‬ ‫الفرج حتى من عمق رغبة الطغاة يف �أمر ما.‬ ‫82‬
  • 29. ‫اَ َ ْ ُ ُ ُ‬ ‫} ل تقتلوه {‬ ‫يبدو �أن قانون "الطواريء" ال�صادر من فرعون ال ي�ستثني زمان ًا �أو مكان ًا، فالقتل اجلماعي مل‬ ‫يكن خارج الق�صر الفرعوين فقط، بل �أن القتل ي�شمل كل ولد حتى لو كان يف الق�صر، وكان العقل‬ ‫اجلمعي حينذاك ق ْتل كل طفل مولود مهما كان و�أي ًا كان، ويدل على الوح�شية املتجذرة يف ذلك‬ ‫َ ُ‬ ‫الوقت دون رحمة لطفل. فكان خطاب اجلمع "ال تقتلوه" داللة على �أن �شركاء القتل للأطفال كُثرُ،‬ ‫من يت�سبب �أو ي�أمر �أو يقتل. كما ورد يف تف�سري امليزان للطباطبائي.‬ ‫} عَ�سى �أَن ينفعنا �أَو نتخِ ذه ولدًا{‬ ‫َ َ َ َ ْ َ َّ َ ُ َ َ‬ ‫تفكري براغماتي ظاهري من امر�أة فرعون، ت�ضرب به على الوتر احل�سا�س يف ا�ستجالب امل�صلحة‬ ‫اخلا�صة، ف�إما �أن يكون هناك نفع �أو اتخاذه ولد ًا، ويف كلتا احلالتني، تكون املنفعة لأهل فرعون ال‬ ‫غري.‬ ‫وما تقوله يبدو �إ�شارة �إىل عدم �إجنابهما للأوالد، وتلك اجلذبة من املحبة ملو�سى من امر�أة فرعون‬ ‫�آية من �آيات الكرامة لنبي اهلل مو�سى، وذلك من خالل قوله تعاىل } و�أَلقيتُ علَيك مبة مني‬ ‫َ ْ َ ْ َ ْ َ حَ َ َّ ً ِّ ِّ‬ ‫ولت�صنع علَى عينِي {. طه ٩٣ ‬ ‫َُِ ْ ََ َ َْ‬ ‫  ‬ ‫َ ْ اَ َ ْ ُ ُ َ‬ ‫}وهُ م ل ي�شعر‌ون{‬ ‫تتمثل �آية من �آيات اهلل الكربى يف �أن يدخل مو�سى "الثائر" قلب ق�صر فرعون "اجلائر". ليحت�ضن‬ ‫ق�صر الطاغية من �سيكون �سبب ًا يف هالكه. لذا عق ّبت الآية بـ "وهم ال ي�شعرون"، وكما يذكر‬ ‫تف�سري جممع البيان ب�أنهم ال ي�شعرون �أن هالكهم بني يدي مو�سى (عليه ال�سالم). ‬ ‫و�أفرد اهلل لهذه املر�أة العظيمة �سبب ًا لتكون و�سيلة �إنقاذ نبيه ومراعاته من داخل عرين الطاغية‬ ‫نف�سه، ونكتة �أخرى تدل على �أنها لها مكانة يف قلب فرعون ومهابة يف الق�صر، وهي ما زالت تخفي‬ ‫�إميانها، ف�أي عظمة هذه بني جنبي هذه املر�أة؟‬ ‫فقد كانت تتحرك لتكون طوق جناة لنبي مهدد بالقتل من �صغره، ُلي�ضاف �إىل تكتمها لإميانها دور‬ ‫ٌ‬ ‫ُ َّ‬ ‫ّ‬ ‫�آخر يت�سم باملخاطرة، وهي حماية هذا الطفل. فكانت طوق جناة لنبي، وامر�أة حتتفظ  بجذوة‬ ‫الإميان يف ق�صر من جليد.‬ ‫92‬
  • 30. 30
  • 31.   31
  • 32. ‫}و�ضر‌ب اللَـه مثل للَذِ ين �آمنوا امر‌�أَت فرعون ِ�إذ قالتْ ر‌ب ابن ل عِ ندَك بيتا ف الجْنة وننِي‬ ‫َ َ ْ ً يِ َ َّ ِ َ جَ ِّ‬ ‫َ َ َ َ ّ ُ َ َ اً ِّ ّ َ َ ُ ْ َ َ ِ ْ‌ َ ْ َ ْ َ َ َ ِّ ْ ِ يِ‬ ‫َ ْ َ ْ ِ َّ‬ ‫ِ َ ْ َ َ َ َ ِ ِ َ جَ ِّ‬ ‫مِ ن فرْ‌عون وعمله وننِي مِ ن القوم الظالمِ ِني{ التحرمي ١١‬ ‫ميكن ت�شبيه التاريخ كالكرة، والنماذج الإن�سانية املتنوعة هبوط ًا و�صعود ًا، رقيا وانحطاط ًا نتوءات‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫بارزة على �سطح الكرة. والزمن هو الأر�ضية التي مت�شي عليها الكرة.‬ ‫لذا تتكرر النماذج وقد تعود للظهور عندما يالم�س "الأمنوذج -النتوء" �أر�ضية الزمن. ‬ ‫وتكون تلك النماذج قمم ًا يف الر�سالة واملعنى "�سلب ًا �أو �إيجاب ًا"، قد تتمثل يف موقف حتويه �أمة �أو‬ ‫ميكن �أن يحمله فرد. ‬ ‫لذا ت�أخذ هذه الأمثلة طريقها للخلود، فتُذكر يف تواريخ الأمم والديانات، ويتميز القر�آن الكرمي ‬ ‫ّ‬ ‫ب�ضربه للأمثلة التي تختزل كمية هائلة من الر�سائل البينة منها وتلك التي حتتاج لت�أمل، وك�أنها‬ ‫ملف م�ضغوط ‪ ،Compressed file‬حتتاج فتحه لتت�أمله بالرغم من �سال�سة بيانه وو�ضوحه.‬ ‫وق�صة امر�أة فرعون بالرغم من �سردها يف مواقع ب�سيطة �إال �أنّ لها من الأهمية بحيث ُي�ضرب بها‬ ‫املثل. لأنها ت�شكل فئة من امل�ؤمنني، ممن لهم مكانة دنيوية مميزة، جاه ًا �أو ماال �أو �سلطة بدرجة‬ ‫ً ُ‬ ‫ّ‬ ‫ما.‬ ‫ولهذه املر�أة مكانة مميزة كما اعتقد من حيث التحدي  واالختيار وال�صمود وموا�صلة الدرب.‬ ‫ّ‬ ‫وهي متثل �أمنوذج ًا ن�سوي ًا ا�شرتك يف االختيار مع �أمنوذج امللكة بلقي�س، �إال �أن الأخرية كانت بيدها‬ ‫ال�سلطة واحلل والعقد، يف حني �أن امر�أة فرعون كانت ال�سلطة لها من زوجها الفرعون فقط.‬ ‫فكان لها مكانة �أنْ ُي�ضرب بها املثل يف القر�آن الكرمي. فاملوقف الر�سايل ال يت�سم باملرونة عندما‬ ‫يتحرك وبال�صالبة عندما يثبت.   ‬ ‫َ َ َ َ ّ ُ َ َ اً ِّ ّ َ َ ُ‬ ‫}و�ضر‌ب اللَـه مثل للَذِ ين �آمنوا { ‬ ‫�ضرب املثل �أي اتخاذه �أمنوذج ًا على مدار الأزمنة والأمكنة، �أي �أن هذا املثل هو القيا�س  الأبرز‬ ‫ُ‬ ‫ملو�ضوع املثل.‬ ‫"للذين �آمنوا"، وهنا نكتة عظيمة يف �أن املثل امل�ضروب به عام للم�ؤمنني وامل�ؤمنات، الرجال‬ ‫23‬
  • 33. ‫والن�ساء دون تفريق، مما يعني �أن على امل�ؤمن �أن ي�أخذ الأمنوذج كحالة �سلوكية وفكرية و�إميانية‬ ‫والتي ال يحدها جن�س ونوع �صاحب املثل، وهو هنا امر�أة.‬ ‫"امر�أة فرعون" ن�سبة هذه الإمر�أة لزوجها لي�س ا�ستنقا�ص ًا ل�ش�أنها، �إذ كان بالإمكان ذكر‬ ‫ا�سمها، �إال �أن لهذا ال�سرد يف الن�سبة معنى جميال ور�سالي ًا، وهو �أن من نتحدث عنه هي امر�أة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فرعون م�صر، بكل ما يعني ذلك من مغريات وتهديدات تعي�شها هذه املر�أة.‬ ‫َ َ ْ ً يِ َ َّ ِ‬ ‫ْ َ َ َ ِّ ْ ِ يِ‬ ‫} �إِذ قالتْ ر‌ب ابن ل عِ ندَك بيتا ف الجْنة {‬ ‫كانت �سرية "�آ�سية بنت مزاحم" زوج فرعون من �أول ما �أخذت نبي اهلل مو�سى وهو �صغري تدل على‬ ‫نقاء �سريرة هذه املر�أة، والتي ا�ستمرت يف هذا ال�سبيل دون هوادة، فما �إنْ علم فرعون ب�إميانها‬ ‫والذي ُيقال �أنها �أ�سلمت ملا عاينت معجزة مو�سى بع�صاه �أمام �سحرة فرعون، قام الأخري بنهيها‬ ‫عن اتخاذ �سبيل الإميان ف�أبت! قمة يف التحدي والت�ضحية والإميان، امر�أة جتري من بني يديها ما‬ ‫ْ‬ ‫تريد وزوجة فرعون دولة قوية وما عليها �إال الإ�شارة ليكون ما تود وت�شتهي، ومع كل ذلك اختارت‬ ‫�سبيل الإميان والر�سالة وكانت م�ستعدة متام ًا لدفع الثمن الأر�ضي من تعذيب وتَلقى كل ذلك بقلب‬ ‫ِّ‬ ‫م�ؤمن و�صابر. فلما رف�ضت طلب فرعون ب�صرف النظر عن �إميانها، �أوتدَ فرعون يديها ورجليها‬ ‫َ َ‬ ‫ب�أربعة �أوتاد و�ألقاها يف ال�شم�س، ثم �أمر �أن ُيلقى عليها �صخرة عظيمة، فلما اقرتب �أجلها }قالتْ‬ ‫ر‌ب ابن ل عِ ندَك بيتا ف الجْنةِ{، قمة �إميان جت�سدت يف هذه املر�أة العظيمة التي ترى بعني تبتعد‬ ‫ّ‬ ‫َ َ ْ ً يِ َ َّ‬ ‫َ ِّ ْ ِ يِ‬ ‫عن كل ح�ساب �أر�ضي، فرتى امل�ستقبل بقلب اختار الإميان طريق ًا دون غريه.‬ ‫َ ْ َ ْ ِ َّ‬ ‫ِ ْ َ ْ َ َ َ َ ِ َ جَ ِّ‬ ‫َ جَ ِّ‬ ‫}وننِي مِ ن فر‌عون وعم ِله وننِي مِ ن القوم الظالِـمِ ني{‬ ‫يبدو �أن حجم ال�ضيق والأذى الذي تعي�شه يف الق�صر الفرعوين من �سلوكيات وفكر وعقيدة كان‬ ‫كبري ًا، فتطلب النجاة من �أمرين فرعون ك�شخ�ص وفرعون كعمل، فلقد �أ�صبح م�صدر ًا للظلم‬ ‫والبط�ش، فكل ما ي�صدر منه �ضد امل�ؤمنني والر�ساليني هو �سيء و�شيطاين، لذا طلبت النجاة من‬ ‫فرعون يف �شخ�صه ملا يتمتع به من خ�صائ�ص �سلبية معينة، ومن كل "عمل" �صادر منه.‬ ‫"وجنني من القوم الظاملني"، ما كانت تعي�شه امر�أة فرعون ممتد من فرعون نف�سه �إىل كل‬ ‫ٌ‬ ‫33‬
  • 34. ‫ما يف �لق�سر، فالعقل �لمعي �لر�سمي �ل�سلبي �آنذ�ك كان م�سيطر ً�، بد�ية من فرعون و�نتهاء‬ ‫باأ�سغر عامل يف �لق�سر. و�لظلم فيما هم ما�سون فيه وخائ�سون.‬ ‫فلي�ست هناك ر�حة لقلب �أبي�ص و�سط �سو�د يرتبع على �لقلوب، كما �أن �ل�سمعة ل ميكنها �لبقاء‬ ‫يف كهف جليدي، وهكذ� كانت �مر�أة فرعون، جذوة �إميان م�ستعلة و�سط كهف جليدي من م�ساعر‬ ‫باردة �فتقدت �لإن�سانية وكل ما ينتمي لل�سمري و�لعقل.‬ ‫فكانت �لغ َل َبة �لأر�سية لليد فرعون يف �إطفاء �سمعة "�آ�سية"، �إل �أن �سعلتها ظ ّلت خالدة و�ستكون‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫كذلك، لأن "حر�رتها" �آتية من �سغف �ل�سماء، وهو �ل�سغف �لذي ل يخبو� ول ينتهي �أبد ً�.‬ ‫�لتاريخ‬ ‫�لتجارب �لب�سرية‬ ‫�لزمن‬ ‫43‬
  • 35. 35
  • 36. 36
  • 37.   37
  • 38. ‫ال�شريط املُعاد �س َّنة احلياة مع اختالف الظروف والأ�شكال والبيئة، �إال �أن الإن�سان هو نف�سه، ذلك‬ ‫ِ‬ ‫الكائن احلاوي ل�صبغة ال�سماء و�أدمي الأر�ض، النور والظالم، اخلري وال�شر، وهو �ساحة ال�صراع‬ ‫التي تت�سابق فيها رايتان، راية حق وراية باطل، ومن له الغ َل َبة تكون رايته فوق هامة هذا الإن�سان.‬ ‫َ‬ ‫�سلوك الإن�سان هو ثبات يف تغري، �أو كمثل �صلب يف غاز، مكوناته الأ�سا�سية لها �صفاتها وميزاتها،‬ ‫ويكون الإحتكاك مب�سميات جديدة و�أ�شكال جديدة لأمور ثابتة.‬ ‫فقابلية الإ�صالح موجودة بالقوة يف الإن�سان، لكن يلزمها �أدوات لتكون فعال بالظاهر �أي�ض ًا. وقد‬ ‫ً‬ ‫تكون �أدوات البيئة املحيطة مهي�أة متام ًا لإحداث ذلك الإ�صالح، �إال �أن قابلية ذلك تكون مفقودة‬ ‫ً‬ ‫يف ذات الإن�سان لتغليبه كفة �إ�شباع الذات املحدودة بدال من امل�ضي يف كفة الرقي بها. وميكن �أن‬ ‫يحدث ذلك حتى مع من هو �أقرب �إىل منبع الإ�صالح ونا�شره، وهم الأنبياء.‬ ‫فالإ�صالح الذاتي والهداية لي�ست معادالت ريا�ضية بحتة، فكون امر�أة زوجة نبي ال ي�ستلزم �أن‬ ‫تكون هي �أي�ض ًا يف م�سرية الإ�صالح.‬ ‫وال �أدل على ذلك من هذه الآية الكرمية.. ‬ ‫} �ضر‌ب اللَـه مثل للَذِ ين كفر‌وا امر�أَت نوح وامر‌�أَت لوط كانتا تْتَ عبدين مِ نْ عِ بادنا �صالينْ‬ ‫َ ِ َ َ حِ َ ِ‬ ‫َ َ َ ّ ُ َ َ اً ِّ ّ َ َ َ ُ ْ َ‌ َ ُ ٍ َ ْ َ َ ُ ٍ َ َ َ حَ َ ْ َ ْ ِ‬ ‫َ َ َ َ َ َ ْ ُ ْ ِ َ َ ْ ُ َ َ ّ ِ َ ْ ً َ َ ُ اَ َّ َ َ َ‬ ‫فخانتاهُ ما فلَم يغنيا عنهما مِ ن اللَـه �شيئا وقِيل ادْخل النارَ‌ مع الدّاخِ لِني{ التحرمي ٠١‬ ‫م�ضرب املثل هنا يف الأمنوذج ال�سلبي للذين كفروا، من خالل ال�سلوك والعقلية التي اتبعتها‬ ‫امر�أتني لنبيني كرميني، وهما نوح ولوط، وما مييز بيئة هذين النبيني هو ال�صراع االجتماعي‬ ‫ال�سلبي جد ًا وال�شاذ، ففي جمتمع نوح �صوتٌ غريب عن الر�سالة وطول زمن امتد ملئات ال�سنني يف‬ ‫الدعوة.‬ ‫ويف جمتمع لوط قفزة �سلوكية �شاذة جتاه الرجال، والقاريء ل�سرية هذين املجتمعني، يتوقع �أن‬ ‫تكون زوجتي هذين النبيني معهما وب�شدة، فنوح مع طول الر�سالة وزوجته ت�شهد ذلك ب�أم عينها،‬ ‫من املتوقع �أن تكون معه وت�سانده. وعند نبي اهلل لوط كذلك، فالقوم اجتهوا نحو �شذوذ غريب‬ ‫يعترب الأول من نوعه يف ع�صرهم، مما كان متوقع ًا من زوجته �أن تكون مع زوجها النبي لإرجاع‬ ‫الفطرة حلالها يف املجتمع عرب ر�سالته.‬ ‫ومع ذلك كله، ف�إن املجتمع يف زمن هذين النبيني قد متكن من جر زوجتي النبيني لتكونا مع العقل‬ ‫ّ‬ ‫83‬
  • 39. ‫اجلمعي العام ال�سائر يف اجتاه خمالف خلط الإ�صالح النبوي.‬ ‫} كانتا تْتَ عبدين مِ نْ عِ بادنا �صالينْ {، بالرغم من كون الزوجتني "حتت" والية زوجيهما‬ ‫َ ِ َ َ حِ َ ِ‬ ‫َ َ َ حَ َ ْ َ ْ ِ‬ ‫ال�شرعية، �إال �أن ذوبانهما يف املجتمع ال�سلبي �آنذاك كان �أكرث من الإندماج مع البيت الر�سايل‬ ‫الذي تع�شنَ فيه. فاخللل يف الإلتزام باخلط الر�سايل ي�أتي من غرفة القلب قبل �أن ي�أتي من غرفة‬ ‫البيت. فلي�ست هناك "ح�صانة دبلوما�سية" مطلقة من الزَ لل �أينما كان الفرد ولو حتت ظل بيت‬ ‫نبوي.‬ ‫ً‬ ‫"فخانتاهما"،  �أي خانتا الر�سالة لقربهما من م�صدرهما �أوال وخانتا الإميان بتلك الر�سالة‬ ‫ثاني ًا.‬ ‫فكانت امر�أة نوح تقول للنا�س �أن زوجها النبي جمنون، و�إذا �آمن �أحد بنوح �أخربت اجلبابرة من‬ ‫قومه، و�أما امر�أة لوط فكانت تدل قومه على �أ�ضيافه. ‬ ‫واخليانة ت�أتي عند وجود �أمانة يف يد الفرد، وهما كذلك، فكونهما زوجتا نبيني ولديهما ر�سالة،‬ ‫وعدم م�ساندتهما، بل الت�آمر عليهما ميثل خيانة للر�سالة، وذكر �صفتهما بامر�أتي نوح ولوط، دليل‬ ‫على عظم هذه اخليانة للأمانة التي ت�أتي من و�سط بيت املبلغ والر�سايل. وبنف�س النكتة ال�سابقة‬ ‫املذكورة عن "امر�أة" فرعون فكلتاهما مل تتحقق معنى الزوجية لذا مت و�صفها بـ "امر�أتي".‬ ‫}فلم يغنيا عنهما من اهلل �شيئ ًا{: د�ستور �سماوي وا�ضح من �أول اخلليقة متمثل يف قابيل، وهو �أن‬ ‫ٌ‬ ‫الن�سبة الدموية �أو الأ�سرية ال تغني �أو ت�سمن من جوع عند العدول عن خط الر�سالة. فاملهم اتباع‬ ‫الر�سالة ال ن�سب ال�شخ�ص عائلي ًا �إىل �صاحبها، وتلك اللفتة ال�سماوية العامة تتمثل يف �أن الر�سالة‬ ‫يجب �أن تُتبع بغ�ض النظر عن الن�سبة واملنزلة العائلية �أو االجتماعية، وبذا تتجرد الر�سالة عن كل‬ ‫رابط �أر�ضي قد ي�ؤثر يف خط �سريها، وهذا هو قوة منهج الأنبياء يف ر�ساالتهم املتعددة.‬ ‫"وقيل ادخال النار مع الداخلني"، والنتيجة لتلك اخليانة، هو الدخول يف النار مع كل الذين‬ ‫�سيدخلونها، ولي�س لهنّ �أي حبوة �أو "وا�سطة"  تفيد يف التخفيف من عذاب النار، والتي متثل‬ ‫احلالة امللكوتية لكل القلوب البعيدة عن اهلل، فيكون بعدها عن خط ال�سماء اقرتاب ًا �أكرث لنار كل‬ ‫القيم ال�سلبية.‬ ‫وذلك متثيل حقيقي للحديث الوارد عن الإمام علي بن احل�سني بن علي بن �أبي طالب عليه‬ ‫93‬
  • 40. ‫ال�سالم: "�إن اهلل خلق اجلنة ملن �أطاعه ولو كان عبداً حب�شياً وخلق النار ملن ع�صاه ولو كان‬ ‫حراً قر�شياً".‬ ‫د�ستور ثابت، ومنهج ال ا�ستثناءات فيه.‬ ‫ّ‬ ‫ُي�سقط كل االعتبارات االجتماعية والأ�سرية وكل �شيءٍ �إال من العمل يف حد ذاته..‬ ‫وهذا هو �سبيل القر�آن لر�سم مكانة الإن�سان يف احلياة، املعيار هو العمل فقط..‬ ‫04‬
  • 41. 41
  • 42. 42
  • 43.    43
  • 44. ‫َ ْ َ َ مْ اَ ِ َ ُ َ َ ْ مَ ُ َّ ّ َ ْ َ َ َ َ َّ َ َ ْ َ َ َ َ ِ ْ َ َ‬ ‫} و�إِذ قالتِ الَلئكة يا مر‌ي �إِن اللَـه ا�صطفاكِ وطهر‌كِ وا�صطفاكِ علَى نِ�ساء العا مَلِني (24) يا‬ ‫َ‬ ‫َ مَ ُ ْ ُ ِ ِّ َ ْ ُ َ َ َ َ ّ ِ ِ َ‬ ‫مرْ‌ي اقنتِي لرَ‌بكِ وا�سجدِ ي وارْ‌كعِي مع الرَ‌اكعني { �آل عمران 24,34‬ ‫يِ‬ ‫ُ َ ْ ُ َ ْ مَ َ َ‬ ‫ْ َ َ اَ ِ َ ُ َ َ ْ مَ ُ َّ ّ َ ُ َ ِّ ُ َ َ ٍ ِّ ْ ُ ْ ُ ُ‬ ‫} �إِذ قالتِ ا مْلَلئكة يا مر‌ي �إِن اللَـه يب�شر‌كِ ِبك ِلمة منه ا�سمه ا مْلَ�سِ يح عِ ي�سى ابن مر‌ي وجِ يهًا ف‬ ‫ُّ ْ َ َ ْ َ‌ ِ َ َ مْ َ ّ ِ َ‬ ‫الدنيا والآخِ رة ومِ ن الُقرَ‌بني  { �آل عمران 54‬ ‫ { �آل عمران 64‬ ‫َ َ اً َ َ َّ حِ ِ َ‬ ‫} ويك ِّلم النا�س ف ا مْلَهْدِ وكهْل ومِ ن ال�صالني‬ ‫َ ُ َ ُ َّ َ يِ‬ ‫} قالتْ ر‌ب �أَنى يكون ل ولد ول ي�س�سنِي ب�شر قال كذلِكِ اللَـه يخلق مَا ي�شاء �إِذا ق�ضى َ�أمر‌ا‬ ‫ُّ َُُْ ََ ُ َ َ َ ًْ‬ ‫َ َ َ ِّ َّ َ ُ ُ يِ َ َ ٌ َ مَ ْ مَ ْ َ ْ َ َ ٌ‌ َ َ َ‬ ‫َ مَّ َ َ ُ ُ َ ُ ُ َ َ ُ ُ‬ ‫ف�إِنا يقول له كن فيكون  { �آل عمران 74‬ ‫�إفراد �سورة كاملة با�سم ال�سيدة مرمي املقد�سة هذه منزلة للفت النظر لهذه املر�أة و�سريتها ويف‬ ‫ٌ‬ ‫ُ ٌ‬ ‫ذلك معنى عظيم يف �ضرب املثال للمر�أة يف الكون، طهر واختيار و�صرب و�شجاعة وموا�صلة ر�سالة‬ ‫ً‬ ‫ون�صر م�ؤزر، ذلك خط مرمي عليها ال�سالم منذ �صغرها.‬ ‫ٌ‬ ‫لقد مت ذكر الإ�صطفاء مرتني يف الآية الكرمية، وكان ا�ستجابة لدعوة �أمها ويف هذا الإ�صطفاء‬ ‫داللة بينة يف القر�آن الكرمي �أنّ التكامل الب�شري ال يقت�صر على الذكر دون الأنثى، �إذ كون التكامل‬ ‫يتحرك مبعزل عن جن�س الإن�سان، فال نقي�صة لأنثى لكونها �أنثى، وال ميزة لذكر كونه ذكر ًا.‬ ‫واملنظور القر�آين لكال اجلن�سني يتحرك من معيار العمل والإميان دون النظر �إىل جن�س الإن�سان‬ ‫امل�ؤمن، وبالتايل تكون م�سرية التكامل من�صفة للذكر والأنثـى على حد �سواء، بعيد ًا عن معايري‬ ‫ُ‬ ‫التقييم الأخرى التي يغذيها الع ــرف تارة �أو مدار�س فكرية متنوعة تارة �أخرى، وذلك يف‬ ‫ُ‬ ‫حماولة تف�ضيل �أحدهما على الآخـ ــر. ومع وجود �أي تف�ضيل جلن�س يهتــز التوازن يف املجتمع،‬ ‫وتكون الهزّات النف�سية واالجتماعية وا�ضحة وتن�سحب على ميادين �أخرى، كال�سيا�سة واالقت�صاد‬ ‫والإعالم والثقافة.‬ ‫44‬
  • 45. ‫ّ‬ ‫فو�ضع اجلن�سني على قدر امل�ساواة يف �شروط حت�صيل ر�صيد الإميان والرتقي يف التكامل هو عني‬ ‫ٍّ‬ ‫الإن�صاف و�إظهار القوة الفطرية لكل منهما دون متييز �أو تف�ضيل.‬ ‫َ َ ْ مَ ُ ْ ُ ِ َ َ ْ ُ َ ْ‌ َ َ َ َّ ِ ِ َ‬ ‫} يا مر‌ي اقنتِي لر‌ ِّبكِ وا�سجدِ ي واركعِي مع الر‌اكعني {‬ ‫ دعوة للعبادة واالبتهال هلل، ليكون كل ذلك معين ًا لها يف ظل ال�ضغط املجتمعي الرهيب فيما بعد.‬ ‫ً‬ ‫ذلك التوا�صل ال�سماوي �سيكون كفيال بتحمل ال�ضغط الأر�ضي عليها. و�صاحب كل ر�سالة ومبد�أ له‬ ‫وقته اخلا�ص الذي ي�ستمد من خالله طاقته التي تدفعه للم�ضي قدُم ًا يف �سبيل ر�سالته، ذلك الوقت‬ ‫ُ‬ ‫هو عندما يت�صل بال�سماء. فا�ستنزاف الطاقة من العنا�صر الأر�ضية املحيطة بالفرد الر�سايل‬ ‫ي�ستلزمه �إعادة �شحنها من م�صدر �سماوي.‬ ‫َ ِ ُ ْ ْ َ َ ْ ِ ِ ْ َ َ مَ َ ُ ْ َ ً‬ ‫قال تعاىل: } وبكفرِ‌هِ م وقولهم علَى مرْ‌ي بهتانا عَظِ يما{ الن�ساء 651‬ ‫ً‬ ‫حرب نف�سية كبرية يتم �شنها على �أطهر امر�أة يف ع�صرها، فيذكر القر�آن "بهتان ًا" ولي�س كذب ًا‬ ‫فقط، والبهتان �أعظم درجة من الكذب يف تلفيق التهم ون�سج �أمور ال �أ�سا�س لها وتدخل يف دائرة‬ ‫القذف والطعن يف العر�ض.‬ ‫ولعظم منزلة مرمي، ذكر القر�آن } بهتانا عَظِ يما { والبهتان يكفي للداللة على عظم الأمر �إال �أن‬ ‫ً‬ ‫َُْ ً‬ ‫و�صفه (عظيم) له داللة على خطر ما مت ذكره يف حقها.‬ ‫ٌ‬ ‫فقد جتاوز اليهود كل احلدود، فمن قتلهم للأنبياء وا�ستهزاء مبنزلتهم العظيمة �إىل رمي مرمي‬ ‫العذراء بتهمة �شنيعة و ُبهتان عظيم. فمن يقتل الأنبياء ال يرعوي عن �سوق التُهم والتعدي على‬ ‫ّ‬ ‫حرم امر�أة طاهرة كمرمي املقد�سة. وذلك ديدن من ي�سلك �سبيل الإنكار واجلحود وتغييب العقل‬ ‫ُُ‬ ‫ّ‬ ‫بغطاء من الدموية والوح�شية والتهكم وال�صالفة يف التعامل مع الآخر.‬ ‫ قال تعاىل:} واذكر‌ ف الكتابِ مر‌ي �إِذ انتبذتْ مِ نْ �أَهْ ِلهَا مكانا �شر‌قيا(61) فاتخذتْ مِ ن دُونهم‬ ‫ِِْ‬ ‫َ َّ َ َ‬ ‫َ َ ً َ ْ ِ ًّ‬ ‫َ ْ ُ ْ يِ ْ ِ َ َ ْ مَ َ ِ َ َ َ‬ ‫حِ جابا ف�أَر‌�س ْلنا �إِليهَا ر‌وحنا فتمثل لهَا ب�شر‌ا �سويا (71) قالتْ �إِن �أَعُوذ بِالر‌حمـن مِ نك �إِن كنتَ‬ ‫ُ َّ ْ َ ِ َ ُ‬ ‫َ َ ِيّ‬ ‫َ ً َ ْ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َ َ ّ َ َ َ َ َ ً َ ِ ًّ‬ ‫54‬